هذا (ومن باب الإشارة في الآيات): فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى والفرق أنه لما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مقام البقاء بالحق سبحانه إليه الفعل بقوله تعالى: إذ رميت مع سلبه عنه (بما رميت) وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمدا عليه الصلاة بالله تعالى لا بنفسه، ولعلو مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئا، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التعبير بالمضارع المنفي (بلم) في إحداهما والماضي المنفي (بما) في الأخرى فارجع إلى فكرك. فلعل الله تعالى يفتحه عليك. وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا أي: ليعطيهم عطاء جميلا؛ وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك. إن الله سميع بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم. عليم بأنه القاتل حقيقة وكونكم مظهرا لفعله. وأن الله موهن كيد الكافرين لاحتجابهم بأنفسهم. إن تستفتحوا الآية، قيل فيها: أي: تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي. فقد جاءكم الفتح بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجليا ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه. وإن تنتهوا عن طلب السوي فهو خير لكم لما فيه من الفوز بالمولى. وإن تعودوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نعد إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم. ولن تغني عنكم فئتكم الدنيوية شيئا مما لخاصته سبحانه. ولو كثرت لأنها كسراب بقيعة يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلا تصح دعوى السماع مع الإعراض ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون لكونهم محجوبين عن الفهم. إن شر الدواب عند الله الصم عن السماع. البكم عن القبول. الذين لا يعقلون لماذا خلقوا. ولو علم الله فيهم خيرا استعدادا صالحا لأسمعهم سماع تفهم. ولو أسمعهم مع عدم علم الخير فيهم لتولوا ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعا؛ إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول بالتصفية. إذا دعاكم لما يحييكم وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال: استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل. إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة. وأنه إليه تحشرون فيجازيكم على حسب مراتبكم. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة. واذكروا إذ أنتم قليل من حيث القدر لجهلكم مستضعفون في أرض النفس. تخافون أن يتخطفكم الناس أي: ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم. فآواكم إلى مدينة العلم. وأيدكم بنصره في مقام توحيد الأفعال ورزقكم من الطيبات أي: علوم تجليات الصفات. لعلكم تشكرون ذلك، وقد يقال: واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلا ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق والروحانية مستضعفون في أرض البدن تخافون أن يتخطفكم الناس من النفس وأعوانها [ ص: 209 ] فآواكم إلى حظائر قدسه. وأيدكم بنصره بالواردات الربانية ورزقكم من الطيبات وهي تجلياته سبحانه. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله بترك الإيمان والرسول بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام. وتخونوا أماناتكم وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق. وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس. وأنتم تعلمون قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون. وأن الله عنده أجر عظيم لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته. يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد يجعل لكم فرقانا نورا تفرقون به بين الحق والباطل، وربما يقال: إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز بها بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة. وفي بعض الآثار: «اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور من نور الله تعالى». ويكفر عنكم سيئاتكم وهي صفات نفوسكم. ويغفر لكم ذنوب ذواتكم. والله ذو الفضل العظيم فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل.
وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية. جعلها بعضهم خطابا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعناها ما ذكرناه سابقا، وجعلها بعضهم خطابا للروح وهو تأويل أنفسي، أي: وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها ليثبتوك ليقيدوك في أسر الطبيعة. أو يقتلوك بانعدام آثارك. أو يخرجوك من عالم الأرواح. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم لأنك الرحمة للعالمين. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إذ لا ذنب مع الاستغفار ولا عذاب من غير ذنب. وما لهم ألا يعذبهم الله أي: إنهم مستحقون لذلك، كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب بإغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية وما كانوا أولياءه لغلبة صفات أنفسهم عليهم. إن أولياؤه إلا المتقون تلك الصفات. ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك الحكم، وقال ولكن أكثرهم أي: المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه؛ لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي. النيسابوري: وما كان صلاتهم عند البيت وهو ذلك المسجد إلا مكاء إلا وساوس وخطرات شيطانية. وتصدية وعزما على الأفعال الشنيعة. إن الذين كفروا ينفقون أموالهم من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى. ليصدوا عن سبيل الله طريقه الموصل إليه فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة لزوال لذاتهم حتى تكون نسيا منسيا. ثم يغلبون لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها. والذين كفروا أي: وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلا للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه: إلى جهنم يحشرون وهم جهنم القطيعة. قل للذين كفروا إن ينتهوا عما هم عليه. يغفر لهم ما قد سلف لمزيد الفضل. وقاتلوهم أي: قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس؛ فإن جهادها هو الجهاد الأكبر حتى لا تكون فتنة مانعة عن الموصول إلى الحق ويكون الدين كله لله ويضمحل دين النفس الذي شرعته. فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير فيجازيهم على ذلك. والله تعالى الموفق لأوضح المسالك. لا رب غيره، ولا يرجى إلا خيره.
(تم والحمد لله طبع الجزء التاسع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي، ويتلوه إن شاء الله الجزء العاشر مفتتحا بقوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى إتمامه إنه على ما يشاء قدير).