قال في الكشف : والتفصي عن ذلك إما بأن المسؤول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسؤول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله : إني أسكنت .. إلخ . اهـ .
وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين وقد حكى أولا واقتصر ها هنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إذ المسؤول هويها إليهم المساكنة كما روي عن رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلادية وقد حكي بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل وهذه الآية وما تلاها أعني قصة ابن عباس إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد .
وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفا فالإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوي قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله [ ص: 234 ] تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام واجنبني وبني أي بعدني وإياهم أن نعبد الأصنام . (53) . أي عن عبادتها وقرأ الجحدري ( وأجنبني ) بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون : جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل وعيسى الثقفي الحجاز فيقولون : جنبه مشددا وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد والمراد هنا على ما قال طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى وتعقب ذلك الزجاج الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت ثم قال : والصحيح عندي في الجواب وجهان : الأول أنه عليه السلام وإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب والثاني أن الصوفية يقولون : والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوى يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم : . الشرك نوعان ظاهر وهو الذي يقول به المشركون وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام وحيث بني الكلام على ما قرروه يقال : ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه والجواب الصحيح عندي ما قيل : إن ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال عصمة الأنبياء عليهم السلام لموسى عليه السلام : يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط .
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرا ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام .
وقال : إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد سفيان بن عيينة إسماعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت بل يقال طاف به وعلى ذلك أيضا حمل البنين وقال : لم يعبد أحد من ولد مجاهد إبراهيم عليه السلام صنما وإنما عبد بعضهم الوثن وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور وليت شعري كيف ذهبت على هذين [ ص: 235 ] الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام وقال الإمام بعد نقله كلام : إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على مجاهد ابن عيينة ومن هنا قيل عليه : إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضا : واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى وحمل ذلك على الإلطاف فيه ما فيه