ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عز قائلا: والله خلقكم ثم يتوفاكم حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ولذا قيل: إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ، (وأرذل العمر) أخسه وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحاله وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة. ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى: ومن نعمره ننكسه في الخلق [يس: 68] ففيه مجاز، وأخرج عن ابن جرير كرم الله تعالى وجهه أن «أرذل العمر» خمس وسبعون سنة، وعن علي أنه تسعون، وقيل: خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد. قتادة
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقدير الظاهر أن ( من يرد إلى أرذل العمر) [ ص: 188 ] يعم المؤمن مطلقا والكافر، وقيل: إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل العمر لقوله تعالى: ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [التين: 5، 6] وأخرج وغيره عن ابن المنذر أنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلما قارئ القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه عكرمة البخاري عن وابن مردويه «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات». أنس:
لكي لا يعلم بعد علم شيئا اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق- بـ يرد، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم بمعنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه، وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب- شيئا- على المصدرية أو المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول- علم- محذوفا لقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إن الله عليم بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر قدير على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل: عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى القطائع لما بلغ هذا المبلغ، وقيل: إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فتدبر.