وما أمر الساعة التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسماوات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء إلا كلمح البصر أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال: لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة أو هو أي أمرها أقرب أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع فيما يقال له آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتدائية الحركة، و «أو» قال : بمعنى بل. الفراء
ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسميه، أما الإبطال فلأنه يؤول إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الإخبار به كذبا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا. وأجيب باختبار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك، وهذا بناه على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وقوعه وتحديده. وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه: وهو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب. وقيل: هي للتخيير. ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارا أو درهما أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن ( أو ) تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع [ ص: 199 ] بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى: كمثل الذي استوقد نارا إلى قوله سبحانه: أو كصيب من السماء [البقرة: 17- 19] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا إن شبهت بهما جميعا، ومثله في الشعر كثير، وقيل: إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخبر الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله:
أعلام ياقوت نشر ن على رماح من زبرجد
وقال : هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضا بأن الشك بعيد لأن هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضى منه العجب كما توهم، وقال ابن عطية : هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على من يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن الزجاج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة، ومنه قول الشاعر: ابن جريج
قالت له البرق وقالت له الري ح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن نشطت أضحكتكما منكما
إن ارتداد الطرف قد فته إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقيل: المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في (أو إن الله على كل شيء قدير ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني: ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل. وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السماوات والأرض أن قوله تعالى: وما أمر الساعة كالمستفاد من الأول وهو كالتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله سبحانه: إن الله إلخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اهـ. ولا يخفى الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث [لقمان: 34] الآية، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة.