ثم إن ربك للذين هاجروا إلى دار الإسلام وهم وأضرابه أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يقتضيه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور في موضع الخبر لإن، وجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة خبر إن الثانية عليه، والجار والمجرور متعلق بذلك المحذوف، وقال عمار : الخبر هو الآتي وإن الثانية واسمها تكرير للتأكيد ولا تطلب خبرا من حيث الإعراب، والجار والمجرور متعلق بأحد المرفوعين على الأعمال، وقيل: بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين أي الغفران وليس بشيء، وقيل: لا خبر لأن هذه في اللفظ لأن خبر الثاني أغنى عنه وليس بجيد كما لا يخفى (وثم) للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب لا عن رتبة حال الكفرة أبو البقاء من بعد ما فتنوا أي عذبوا على الارتداد، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ثم تجوز به عن البلاء وتعذيب الإنسان.
وقرأ «فتنوا» مبنيا للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد أي عذبوا المؤمنين ابن عامر كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا أو وقعوا في الفتنة فإن فتن جاء متعديا ولازما وتستعمل الفتنة فيما يحصل عند العذاب.
وقال : الظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا والمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل أبو حيان أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم عذبوا أنفسهم عمار ثم جاهدوا الكفار وصبروا على مشاق الجهاد أو على ما أصابهم من المشاق مطلقا إن ربك من بعدها أي المذكورات من الفتنة والهجرة [ ص: 240 ] والجهاد والصبر، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة.
وجوز أن يكون الضمير للفتنة المفهومة من الفعل السابق ويكون ما ذكر بيانا لعدم إخلال ذلك بالحكم، وقال : يجوز أن يكون للتوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح ابن عطية لغفور لما فعلوا من قبل رحيم ينعم عليهم مجازاة لما صنعوا من بعد، وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وما في إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطته عليه الصلاة والسلام ولكونهم أتباعا له.
هذا وكون الآية في وأضرابه رضي الله تعالى عنهم مما ذكره غير واحد، وصرح عمار بأنها نزلت فيه وفي ابن إسحاق عياش بن أبي ربيعة والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وتعقبه بأن ذكر ابن عطية في ذلك غير قويم فإنه أرفع طبقة هؤلاء، وهؤلاء ممن شرح بالكفر صدرا فتح الله تعالى لهم باب التوبة في آخر الآية، وذكر أن الآية مدنية وأنه لا يعلم في ذلك خلافا، ونقل عن عمار رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم ابن عباس بمكة إن الله تعالى قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وأخرج ذلك وفي رواية أنهم خرجوا واتبعوا وقاتلوا فنزلت، وأخرج هذا ابن مردويه، وغيره عن ابن المنذر فالمراد بالجهاد قتالهم لمتبعيهم، وأخرج قتادة، عن ابن جرير الحسن أنها نزلت في وعكرمة عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له رضي الله تعالى عنه فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نزلت فيه وفي أشباهه كما صرح به في بعض الروايات، وفسروا ( فتنوا) على هذا بفتنهم الشيطان وأزلهم حتى ارتدوا باختيارهم، وما ذكره عثمان بن عفان فيمن ذكر مع ابن عطية غير مسلم، فقد أخرج عمار عن ابن أبي حاتم أن قتادة عياشا رضي الله تعالى عنه كان أخا أبي جهل لأمه وكان يضربه سوطا وراحلته سوطا ليرتد عن الإسلام. وفي التفسير الخازني أن عياشا وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل: لأمه وأبا جندل بن سهل بن عمرو وسلمة بن هشام والوليد بن المغيرة وعبد الله بن سلمة الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا والآية نزلت فيهم، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال