[ ص: 41 ] يؤتي الحكمة أخرج وغيره عن ابن جرير أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وفي رواية عنه: الفقه في القرآن، ومثله عن ابن عباس قتادة وخلق كثير، وما روى والضحاك عن ابن المنذر أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج ابن عباس عن البيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي أمامة " من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة، ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة، ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة، ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن، فيقال له اقبض فيقبض، فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم " وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر، ولكن المراد قراءة بفقه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عن ابن أبي حاتم "الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه" وعن أبي الدرداء أنها الإصابة في القول والعمل، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته، وعن مجاهد: أنها المعرفة بالله تعالى، وقال عطاء أبو عثمان: هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام، وقيل غير ذلك، وفي «البحر» أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الإحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها، وعن أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه، فتارة بمواعظ القرآن، وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار، ومرة بالعلم والفهم، وأخرى بالنبوة. قيل: ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين، ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها. مقاتل
من يشاء من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها ومن يؤت الحكمة بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم، وقرأ يعقوب يؤتي على البناء للفاعل وجعل من الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف، ويؤيد الثاني قراءة (ومن يؤته الحكمة). الأعمش
فقد أوتي خيرا عظيما كثيرا إذ قد جمع له خير الدارين. أخرج عن الطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي أمامة لقمان قال لابنه: يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر " وأخرج " إن البخاري عن ومسلم رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن مسعود وأخرج " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " عن الطبراني أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي رواية عن " يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم " ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول: «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن [ ص: 42 ] أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي».
وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس وديمقراطيس وأفلاطون وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد من حديث وأبو يعلى جابر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له، وقال: " لو كان عمر موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " وفي رواية " يكفيكم كتاب الله تعالى " ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به أن موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب.
وما يذكر إلا أولو الألباب [ 269 ] أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي.