وقد أخرج ذلك في «التاريخ» البخاري وغيرهما عن وابن جرير رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية «إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية» وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاء كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرا وتكميلا في الجملة ناسب [ ص: 80 ] ذكره معه، ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف. ابن عباس
وقوله سبحانه: منه آيات الظرف فيه خبر مقدم، و (آيات) مبتدأ مؤخر أو بالعكس، ورجح الأول: بأنه الأوفق بقواعد الصناعة، والثاني: بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب، والجملة إما مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أي منقسما إلى محكم وغيره، أو الظرف وحده حال و (آيات) مرتفع به على الفاعلية محكمات صفة (آيات) أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه هن أم الكتاب أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها، والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعا أما والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد الأم مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة " وأخر " نعت لمحذوف معطوف على (آيات) أي وآيات أخر وهي كما قال جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخرا فمعنى جاءني زيد ورجل آخر جاءني زيد ورجل أشد تأخرا منه في معنى من المعاني، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أولا، فلا يقال: جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل، أعني من والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو: رجلان آخران ورجال آخرون وامرأة أخرى وامرأتان أخريان ونسوة أخر. الرضي:
وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر، قالوا: لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام كالكبر والصغر فعدل عن أصله وأعطي من الجمعية مجردا ما لا يعطى غيره إلا مقرونا، وقيل: الدليل على عدل (أخر) أنه لو كان مع من المقدرة كما في (الله أكبر) للزم أن يقال بنسوة آخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف، أو مع ساد مسد المضاف إليه، أو مع دلالة ما أضيف إليه تابع المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام، واعترض عليه بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر. أبو علي
وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبنى، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف، ولما لم يقصد في (أخر) إرادة الألف واللام أعرب، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه. وقال إنه معدول عن آخر من، وزعم ابن جني: ابن مالك أنه التحقيق، وظاهر كلام أبي حيان اختياره واستدلوا عليه بما لا يخلو عن نظر .
ووصف (أخر) بقوله سبحانه: متشابهات وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل: إن واحد متشابهات متشابهة، [ ص: 81 ] وواحد (أخر) أخرى، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال: أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا وليس المعنى على ذلك وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى، فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في فوجد فيها رجلين يقتتلان إذ الرجل لا يقتتل، وقيل: إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة، وعليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس وعليه الشافعية .
وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناء على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسما كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناء بشأن المظهر وتفخيما له والإضافة على معنى في كما في واحد العشرة فلا يلزم كون الشيء أصلا لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب، فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء أما لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك، وبعض فضلاء العصر العاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر جوز كون الإضافية لامية، و (الكتاب) المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء أما لنفسه وأصلا لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن أمومته لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له وأمومته لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه، ولا يخفى عليك أن الأم إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازا في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلي إلى جزئياته ف (أل) في الكتاب للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض الأفراد وهو المتشابه، ويجوز أن يراد من الثاني أيضا مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق، قيل: وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو [ ص: 82 ] مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية، فتدبر.
وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور; وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال، أخرج من طريق ابن أبي حاتم علي ابن أبي طلحة عن قال المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، والمتشابهات ما يؤمن به ولا يعمل به، وأخرج ابن عباس عن الفريابي قال المحكمات ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه، وأخرج مجاهد عن عبيد بن عمير قال المحكمات ما لم ينسخ والمتشابهات ما قد نسخ، وقال الضحاك الماوردي: كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، وقيل: المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما يقابله، وقيل: غير ذلك، وهذا الخلاف في المحكم والمتشابه هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم، والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضا في البلاغة، وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن، وعلى ذلك خرج قوله تعالى: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه الر كتاب أحكمت آياته وقوله سبحانه: كتابا متشابها مثاني .
فأما الذين في قلوبهم زيغ أي عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء، وقال الراغب: ((الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين)) وزاغ وزال ومال متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغ وزيغوغة وزيغان وزيوغ، والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود وإليه ذهب وقيل: منكرو البعث، وقيل: المنافقون، وأخرج الإمام ابن عباس، وغيره على أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أبي أمامة الخوارج، وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص، وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل فيتبعون ما تشابه منه أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره غير المراد له تعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة، وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إلحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه: ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه كما نقل عن وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهون، فالإضافة في الواقدي، تأويله للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقا للتشهي.
والتأويل التفسير كما قاله غير واحد وقال ((إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا، ومن الأول ما ذكر هنا، ومن الثاني قوله: الراغب:
وللنوى قبل يوم البين تأويل
وقوله تعالى: يوم يأتي تأويله أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه، وقوله سبحانه: ذلك خير وأحسن تأويلا قيل: أحسن ترجمة ومعنى، وقيل: أحسن ثوابا في الآخرة)) انتهى.وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون ابتغاء الفتنة طلبة بعض، وابتغاء التأويل [ ص: 83 ] حسب التشهي طلبة آخرين، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما دعاه، ومن الناس من حمل الفتنة على المال، فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى ودليلا، وفي تعليل الاتباع بابتغاء تأويله دون نفس (تأويله) وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل في عير ولا نفير ولا قبيل ولا دبير، وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه.
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم في موضع الحال من ضمير (يتبعون) باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الأفهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين، وأخرج من طريق ابن عساكر عبد الله بن يزيد الأزدي قال: سمعت يقول: أنس بن مالك ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه، والمراد بالعلم العلم الشرعي المقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون. " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم "
يقولون آمنا به استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما أي هم يقولون وقد قيل: إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر، وجوز أن يكون حالا من الراسخين والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعريض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لأن مآله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين، ثم هذا القول وإن لم يخص الراسخين لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن.
كل من عند ربنا من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له، أي كل واحد منه ومن المحكم أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا، وقد قالوا: إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.
وما يذكر إلا أولو الألباب [ 7 ] عطف على جملة يقولون سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر لما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع [ ص: 84 ] الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على (الراسخون) وهو الذي ذهب إليه الشافعية وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه، وأما على تقدير أن يكون الوقف على إلا الله وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه، فالراسخون مبتدأ وجملة يقولون خبر عنه، ورجح الأول بوجوه: أما أولا: فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون، وأما ثانيا: فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم، وأما ثالثا: فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر العبارة حيث لم يقل (ومنه متشابهات) لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء إلى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكما ولا متشابها بالمعنى المذكور وهو كثير جدا، وأما رابعا: فلأن المحكم حينئذ لا يكون أم الكتاب بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلا، وأما خامسا: فلأنه قد ثبت في الصحيح فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " لابن عباس ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى، وأما سادسا: فلأن أنه صلى الله عليه وسلم دعا رضي الله تعالى عنه كان يقول: أنا ممن يعلم تأويله، وأما سابعا: فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك، وأما ثامنا: فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. ابن عباس
والقول بأن أما للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل، غاية الأمر أنه حذفت أما والفاء، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق، فالجمع في قوله سبحانه: أنزل عليك الكتاب والتقسيم في قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات والتفريق في قوله عز شأنه: فأما الذين في قلوبهم زيغ الخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه: والراسخون في العلم الخ مجاب عنه بأن كون أما للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم. ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال، أعني: (يقولون) الخ كاف في ذلك، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة، وهو أصح الروايات عن رضي الله تعالى عنه، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن عباس ابن السمعاني وغيره ويد الله تعالى مع الجماعة.
ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة:
الأول: ما أخرجه في «تفسيره» عبد الرزاق في «مستدركه» عن والحاكم أنه كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه، وحكى ابن عباس أن في قراءة الفراء أيضا ويقول الراسخون في العلم، وأخرج أبي بن كعب ابن أبي داود في «المصاحف» من طريق قال في قراءة الأعمش وإن تأويله إلا عند الله ابن مسعود والراسخون في العلم يقولون آمنا به .
الثاني: ما أخرج في «الكبير» عن الطبراني أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله تعالى ".
الحديث الثالث: ما أخرج من حديث ابن مردويه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رسول الله [ ص: 85 ] صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ".
الرابع: ما أخرج عن الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن مسعود وأخرج " الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا "، في «الشعب» نحوه عن البيهقي أبي هريرة.
الخامس: ما أخرجه عن ابن جرير مرفوعا : ابن عباس " أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب ". إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.
وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز ولكل منهما وجه وجيه وبين ذلك بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى، ومن جهتهما معا، فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون، أو الاشتراك كاليد والعين، وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو الراغب وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم ، وضرب لبسطه نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام نحو أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما إذ تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب:
الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو فاقتلوا المشركين . والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو فانكحوا ما طاب لكم من النساء . والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته . والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيه الآية نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها و إنما النسيء زيادة في الكفر ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه. والخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح.
ثم قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم; ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك، وقسم للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة، وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه: لابن عباس وإذا عرفت هذا ظهر لك جواز الأمرين الوقف على " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " إلا الله والوقف على الراسخون .
وقال بعض أئمة التحقيق: الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على إلا الله وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف ويجوز الوقف أيضا، لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا الله تعالى، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم [ ص: 86 ] دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان: فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه، ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده.
والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه:
فعن الأول: بأنه أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل وأما الراسخون مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات، وقريب من هذا قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت حيث لم يقل والطاغوت أولياء الذين كفروا، ولا الذين آمنوا وليهم الله تعظيما لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين.
وعن الثاني: بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى.
وعن الثالث: بأنه يلتزم القول بعد الحصر، وفي «الإتقان» أن بعضا قال: إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولولا ذلك لأشكل قوله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم؟
وعن الرابع: بالتزام أن إضافة أم إلى (الكتاب) على معنى في، والمحكم أم في (الكتاب) ولكن لا للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو أم وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيرا ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار.
وعن الخامس: بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما لابن عباس كما ذكره. الراغب
وعن السادس: بأن الرواية عن أنه قال: «أنا ممن يعلم تأويله» معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال: مراده رضي الله تعالى عنه أنا ممن يعلم تأويله أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وإن قيل: إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد. ابن عباس
وعن السابع: بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حد لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين، ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازا أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين .
وعن الثامن: بأنه لا بعد في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل وكسر سورة الفكر وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي [ ص: 87 ] ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبي أو لولي فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع، ولعل القائل بكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الولي الكامل مفصلا لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة كعلم الله تعالى وإن لم يكن مفصلا فلا أقل من أن يكون مجملا، ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبي صلى الله عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفته على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفة المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم، ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر الكلام خرط القتاد، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم.
ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال: أخبرني شيخنا علي الخواص قدس سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما، وكان يقول: لا يسمى عالما أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة، وقال في «الكشف» في نحو (ق) ، (ص) ، (حم) ، (طس) : لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد، ففيض الباري عم نواله غير محصور; واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور، ومن لم يصدق إجمالا بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا أو أطوارا حظ العقل منها حظ الحس من المعقولات فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغطاء في هذا التيه، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيبا وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه: آمنا به كل من عند ربنا فهذا ما يجب أن يعتقد كي لا يلحد.
ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف والأشعري رحمه الله تعالى من أعيانهم كما أبانت عن حاله " الإبانة " أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون: الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء والغلبة، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي وليته سكت أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبا، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب، وذكر في «الدرر المنثورة» أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: الشعراني ليس كمثله شيء ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر: [ ص: 88 ]
قد استوى بشر على العراق من غير حرب ودم مهراق
لا يقال إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم، وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا: إخراج الكلام عن ظاهره، لأنا نقول: نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفي الظاهر من غير تعيين للمراد، أحدهما: ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له، وثانيهما: بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل، فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بين الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا.
نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون: إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة، وأين التراب من رب الأرباب، وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل، والراسخون في العلم لا يذهبون إليه، أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل عن والكلبي في " استوى " أنه بمعنى استقر، وما أخرجه ابن عباس أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن عن أمه عن الحسن في قوله تعالى: أم سلمة الرحمن على العرش استوى أنها قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.
وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا: إن هذه المتشابهات تجرى على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى: ليس كمثله شيء حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور مما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل.
وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتا وصفات أيضا [ ص: 89 ] لكن صفاته المتعالية وأسماءه الحسنى قسمان، قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة، ولا يقال: فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا لا دواة ولا قلما وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للإنسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال، ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جلية الحال، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " أو استأثرت به في علم الغيب عندك "، " من عرف الله تعالى كل لسانه "، وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح، ولعل إدراكها عند أهلها كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو والأرض جميعا قبضته يوم القيامة مثلا إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول، نعم لو قيل: إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول، فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنا، وجمعا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم، حتى قال: لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين، والمحكم (أم) يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما: فرعه الإيماني، والثاني: فرعه الإيقاني، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرا من المتشابه، فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام.