وقول القائل: غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها، وقال أبو تمام:
هممي معلقة عليك رقابها مغلولة إن العطاء إسار
وتبعه في قوله: المتنبي
وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وفرقوا بين فعليهما، فقالوا: صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعده وأوعده. ولهم في ذلك كلام طويل، قال فيه الخفاجي ما قال، ثم قال: والتحقيق عندي أن ها هنا مادتين في كل منهما ضار ، وقليل اللفظ، وكثيره، وقد ورد في إحداهما الضار بلفظ مقدم، والنافع بلفظ كثير مؤخر، وفي الأخرى عكسه، ووجهه في الأول أنه أمر واقع لأنه وضع للقيد، ثم أطلق على العطاء، لأنه يقيد صاحبه، وعبر بالأقل في القيد لضيقه المناسب لقلة حروفه وبالأكثر في العطاء لأنه من شأن الكرم. وقدم الأول لأنه أصل أخف، وعكس ذلك في وعد وأوعد، فعبر في النافع بالأقل، وقدم، وأخر الضار وكثر حروفه، لأنه مستقبل غير واقع، والخير الموعود به يحمد سرعة إنجازه وقلة مدة وقوعه، فإن أهنا البر عاجله، وهذا يناسب قلة حروفه، وفي الوعيد يحمد تأخيره لحسن الخلف والعفو عنه، فناسب كثرة حروفه، ثم قال: وهذا تحقيق في غاية الحسن، وما عداه وهم فارغ، فاعرفه، والمراد بهؤلاء المقرنين المردة، فتفيد الآية تفصيل الشياطين إلى عملة استعملهم - عليه السلام - في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص، [ ص: 204 ] ومردة قرن بعضهم ببعض بالجوامع، ليكفوا عن الشر، وظاهره أن هناك تقييدا، وهو مشكل لأن الشياطين إما أجسام نارية لطيفة قابلة للتشكل، وإما أرواح خبيثة مجردة، وأيا ما كان لا يمكن تقييدها، ولا إمساك القيد لها. وأجيب باختيار الأول وهو الصحيح. ونافع
والأصفاد غير ما هو المعروف، بل هي أصفاد يتأتى بها تقييد اللطيف على وجه يمنعه عن التصرف، والأمر من أوله خارق للعادة، وقيل: إن لطافة أجسامهم بمعنى شفافتها لا تأبى الصلابة كما في الزجاج، والفلك عند الفلاسفة، فيمكن أن تكون أجسامهم شفافة وصلبة فلا ترى لشفافتها، ويتأتى تقييدها لصلابتها، وأنكر بعضهم الصلابة لتحقق نفوذ الشياطين فيما لا يمكن نفوذ الصلب فيه، وأنهم لا يدركون باللمس والصلب يدرك به.
وقيل: لا مانع من أنه - عليه السلام - يقيدهم بشكل صلب فيقيدهم حينئذ بالأصفاد، والشيطان إذا ظهر متشكلا بشكل قد يتقيد به، ولا يمكنه التشكل بغيره ولا العود إلى ما كان، وقد نص الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره: أن نظر الإنسان يقيد الشيطان بالشكل الذي يراه فيه، فمتى رأى الإنسان شيطانا بشكل، ولم يصرف نظره عنه بالكلية لم يستطع الشيطان الخفاء عنه، ولا التشكل بشكل آخر إلى أن يجد فرصة صرف النظر عنه ولو برمشة عين.
وزعم أن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن الجبائي سليمان - عليه السلام - ويشاهده الناس، ثم لما توفي - عليه السلام - أمات الله - عز وجل - ذلك الجن وخلق نوعا آخر لطيف الجسم، بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة، وهذا لا يقبل أصلا إلا برواية صحيحة، وأنى هي، وقيل: الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالإقران في الصفد، وليس هناك قيد ولا تقييد حقيقة،