وجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد
وقوله تعالى بعد : وقليل إلخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى ، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح ، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التقنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية ، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن الاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وقليل من الآخرين وهم الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه
قوله عليه الصلاة والسلام : «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك .
وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك ، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [الواقعة : 39 ، 40] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون ، وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا . وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم ، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال : إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم لأنبياء عليهم السلام، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : وابن مردويه ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بلأنتم نصف أهل الجنة - أو شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني» وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته بالكثرة ، ويدل على ذلك ما أخرج «لما نزلت عن ابن مردويه قال : لما نزلت أبي هريرة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 135 ]
وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا قليل فنزلت نصف النهار ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فنسخت وقليل من الآخرين وأبى ذلك فقال : إن الرواية غير صحيحة لأمرين : الزمخشري
أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين ، والثانية في أصحاب اليمين ، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار .
وقيل : يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والإخبار يتبعه ، وعلى هذا ، وقيل : يجوز عن الماضي أيضا وعليه البيضاوي الإمام الرازي والآمدي ، وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند ويوافقه ظهر خبر البيضاوي الثاني ، ولا يجوز على المختار الذي عليه أبي هريرة وغيره فقول صاحب الكشف : لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء . الشافعي
وأقول : قد يتعقب ما ذكره بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال : إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فحزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين : الزمخشري ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى .
وقول فنسخت أبي هريرة وقليل من الآخرين إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر ، وعن رضي الله تعالى عنها : الفرقتان أي في قوله تعالى : عائشة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل ، وقيل : هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين .
وقال : أبو حيان
جاء في الحديث - الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل -
انتهى ، وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك ، أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني بسند حسن عن وابن مردويه أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال : هما جميعا من هذه الأمة .
وأخرج جماعة بسند ضعيف عن مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي ابن عباس
وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز وجل : وكنتم أزواجا ثلاثة لهذه الأمة فقط