ومن سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال : لم يختلف أبو بكر السلف في أن ما قال الله تعالى : حد الزانيين في أول الإسلام واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم إلى قوله : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فكان حد المرأة الحبس والأذى بالتعيير ، وكان حد الرجل التعيير ، ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ونسخ عن المحصن بالرجم ، وذلك لأن في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : عبادة بن الصامت ، فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم إلى قوله : أو يجعل الله لهن سبيلا وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إيانا على أن ما ذكره [ ص: 95 ] من ذلك هو السبيل المراد بالآية ، ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر ؛ لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدما لقوله صلى الله عليه وسلم بحديث عبادة أن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره ، وإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنة وهو الرجم .
واختلف أهل العلم في ، فقال حد المحصن وغير المحصن في الزنا أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر : " يرجم المحصن ولا يجلد ويجلد غير المحصن ، وليس نفيه بحد وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نفيه للدعارة فعل كما يجوز حبسه حتى يحدث توبة " . وقال ومحمد ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري : " لا يجتمع الجلد والرجم " مثل قول أصحابنا ، واختلفوا في النفي بعد الجلد ، فقال والحسن بن صالح : ينفى البكر بعد الجلد " وقال ابن أبي ليلى : " ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد ، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه " وقال مالك الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح : " ينفى الزاني " وقال والشافعي : " ولا تنفى المرأة " وقال الأوزاعي : " ينفى العبد نصف سنة " والدليل على أن نفي البكر الزاني ليس بحد أن قوله تعالى : الشافعي الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يوجب أن يكون هذا هو الحد المستحق بالزنا وأنه كمال الحد ، فلو جعلنا النفي حدا معه لكان الجلد بعض الحد وفي ذلك إيجاب نسخ الآية ، فثبت أن النفي إنما هو تعزير وليس بحد ومن جهة أخرى أن الزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ ، وأيضا لو كان النفي حدا مع الجلد لكان من النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوته توقيف للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حده ، ولو كان كذلك لكان وروده في وزن ورود نقل الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد . وقد روي عن أنه غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل ، فقال : " لا أغرب بعدها أحدا " ولم يستثن الزنا . وروي عن عمر أنه قال في البكرين إذا زنيا : " يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة " وروى علي عبيد الله عن عن نافع : " أن أمة له زنت ، فجلدها ولم ينفها " . وقال ابن عمر : " كفى بالنفي فتنة " . فلو كان النفي ثابتا مع الجلد على أنهما حد الزاني لما خفي على كبراء الصحابة ، ويدل على ذلك ما روى إبراهيم النخعي أبو هريرة وشبل وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمة : . وقد حوى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا : إذا زنت فليجلدها ، فإن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير
أحدهما : [ ص: 96 ] أنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد ، والثاني : أن الله تعالى قال : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فإذا كان جلد الأمة نصف حد الحرة وأخبر صلى الله عليه وسلم في حدها بالجلد دون النفي دل ذلك على أن حد الحرة هو الجلد ولا نفي فيه .
فإن قيل : إنما أراد بذلك التأديب دون الحد ، وقد روي عن أن الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها لقوله تعالى : ابن عباس فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قيل له : قد روى عن أبيه عن سعيد المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها قال ذلك ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة أو الرابعة : ثم ليبعها ولو بضفير يدل على أنها لا تنفى ؛ لأنه لو وجب نفيها لما جاز بيعها ؛ إذ لا يمكن المشتري تسلمها ؛ لأن حكمها أن تنفى . فإن قيل : في حديث بعها ولو بضفير عن شعبة عن قتادة عن الحسن حطان بن عبد الله عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبادة بن الصامت . خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر والثيب بالثيب ، البكر يجلد وينفى والثيب يجلد ويرجم
وروى عن الحسن عن قبيصة بن ذؤيب سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وحديث عن الزهري عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها . أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديته منه بوليدة ومائة شاة ، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم ، فاقض بيننا بكتاب الله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم : اغد يا
قيل له : غير جائز أن نزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد ؛ لأنه يوجب النسخ ، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ ، فالواجب إذا كان هذا هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حد مع الجلد ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت نفي البكر ؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر وكسر الأواني ؛ لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة وأيضا فإن حديث عبادة وارد لا محالة قبل آية الجلد .
وذلك لأنه قال : فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولا قبل ذلك ولما كان الحكم مأخوذا عنه بل عن الآية ، فثبت بذلك أن آية الجلد [ ص: 97 ] إنما نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي ، فوجب أن يكون ناسخا لما في حديث خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا عبادة من النفي إن كان النفي حدا .
ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحد أن الحدود معلومة المقادير والنهايات ولذلك سميت حدودا لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها فلما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للنفي مكانا معلوما ولا مقدارا من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحد وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام ، كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولا إلى رأي الإمام .
ولو كان ذلك حدا لذكر النبي صلى الله عليه وسلم مسافة الموضع الذي ينفى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي .