ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده، وأنه قد أحكم شرعه، وحفظ رسله، وأنه يمكن لمن يشاء أي دين شاء، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا برزت أوامره وانبثت دعاته، أقبل إليه مقبلون، خاطب المقبلين إلى دينه، وهم الخلص من الناس، فقال: يا أيها الذين آمنوا أي قالوا: آمنا اركعوا تصديقا لقولكم واسجدوا أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين، فإنها رأس العبادة، لتكون دليلا على صدقكم في الإقرار بالإيمان، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما، لأنهما - لمخالفتهما الهيئات المعتادة - هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما عنها جدا في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح - لما غلب عليه من العتو - بعض الهيئات الدالة على ذل.
ولما خص أشرف العبادة، عم بقوله: واعبدوا أي بأنواع [ ص: 100 ] العبادة ربكم المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية. ولما ذكر عموم العبادة، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، وقد يكون بلا نية، فقال: وافعلوا الخير أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله، وهو قريب من قال "ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" أبو حيان : بدأ بخاص ثم بأعم. لعلكم تفلحون أي ليكون حالكم حال من يرجو الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب; قال : أفلح الرجل: فاز بنعيم الآخرة، وفلح أيضا لغة فيه. وفي الجمع بين العباب والمحكم: الفلح والفلاح: الفوز والبقاء وفي التنزيل ابن القطاع قد أفلح المؤمنون أي نالوا البقاء الدائم، وفي الخبر: أفلح الرجل: ظفر. ويقال لكل من أصاب خيرا: مفلح.