ولما أنهى سبحانه الأمر في براءة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون السيئة عداوة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم - إذ قانعا منهم بداء الشرك - على الفطرة الأولى، أمر تعالى ردا لما أثار بوسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال: عائشة يا أيها الذين آمنوا أي ألزموا أنفسهم هذا الدين لا تدخلوا أي واحد منكم، ولعله [ ص: 249 ] خاطب الجمع لأنهم في مظنة أن يطردوا الشيطان بتزين بعضهم بحضرة بعض بلباس التقوى، فمن خان منهم منعه إخوانه، فلم يتمكن منه شيطانه، فنهي الواحد من باب الأولى بيوتا غير بيوتكم أي التي هي سكنكم حتى تستأنسوا أي تطلبوا بالاستئذان أن يأنس بكم من فيها وتأنسوا به، فلو قيل له: من؟ فقال: أنا لم يحصل الاستئناس لعدم معرفته، بل الذي عليه أن يقول: أنا فلان - يسمي نفسه بما يعرف به ليؤنس به فيؤذن له أو ينفر منه فيرد وتسلموا على أهلها أي الذين هم سكانها ولو بالعارية منكم فتقولوا: السلام عليكم! أأدخل؟ أو تطرقوا الباب إن كان قد لا يسمع الاستئذان ليؤذن لكم ذلكم الأمر العالي الذي أمرتكم به خير لكم مما كنتم تفعلونه من الدخول بغير إذن ومن تحية الجاهلية، لأنكم إذا دخلتم بغير إذن ربما رأيتم ما يسوءكم، وإذا استأذنتم لم تدخلوا على ما تكرهون، هذا في الدنيا، وأما في الأخرى فأعظم، وقد روى رضي الله عنه: أبو موسى [ ص: 250 ] الأشعري إذا سلم ثلاثا فلم يجبه أحد فليرجع .
وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع.
ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه، قال: لعلكم تذكرون أي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه إلى نفسه عند سماع هذا النهي، فيعرف أن ما يسوءه من غيره يسوء غيره منه، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفا من المقابلة، لأن الجزاء من جنس العمل، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما أشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره.