ولما كان عزم الإنسان فاترا؛ وعقله قاصرا؛ دلهم - بعد أن أوقفتهم التقوى - على الأصل لجميع الخيرات؛ المتكفل بالحفظ من جميع الزلات؛ فقال: واعتصموا ؛ أي: كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد؛ والانضباط العظيم؛ بحبل الله ؛ أي: طريق دين الملك الذي لا كفؤ له؛ التي نهجها لكم؛ ومهدها؛ وأصل الحبل: السبب الذي يوصل به [ ص: 16 ] إلى البغية؛ والحاجة؛ وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف؛ ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح؛ وهذا الدين مثاله؛ فصعوبته وشدته على النفوس؛ بما لها من النوازع؛ والحظوظ؛ مثال دقته؛ فمن قهر نفسه؛ وحفظها على التمسك به؛ حفظ عن السقوط عما هو مثاله.
ولما أفهم كل من الضمير؛ والحبل؛ والاسم الجامع؛ إحاطة الأمر بالكل؛ أكده بقوله: جميعا ؛ لا تدعوا أحدا منكم يشذ عنها؛ بل كلما عثرتم على أحد فارقها؛ ولو قيد شبر؛ فردوه إليها؛ ولا تناظروه؛ ولا تهملوا أمره؛ ولا تغفلوا عنه؛ فيختل النظام؛ وتتعبوا على الدوام؛ بل لا تزالوا كالرابط ربطا شديدا حزمة نبل بحبل؛ لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى؛ ثم أكد ذلك بقوله: ولا تفرقوا ؛ ثم ذكرهم نعمة الاجتماع؛ لأن ذلك باعث على شكرها؛ وهو باعث [ ص: 17 ] على على إدامة الاعتصام والتقوى؛ وبدأ منها بالدنيوية؛ لأنها أس الأخروية فقال: واذكروا نعمة الله ؛ الذي له الكمال كله عليكم ؛ يا من اعتصم بعصام الدين؛ إذ كنتم أعداء ؛ متنافرين أشد تنافر؛ فألف بين قلوبكم ؛ بالجمع على هذا الصراط القويم؛ والمنهج العظيم؛ فأصبحتم بنعمته إخوانا ؛ قد نزع ما في قلوبكم من الإحن؛ وأزال تلك الفتن؛ والمحن.
ولما ذكر النعمة التي أنقذتهم من هلاك الدنيا؛ ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي؛ فقال: وكنتم على شفا ؛ أي: حرف؛ وطرف حفرة من النار ؛ بما كنتم فيه من الجاهلية؛ فأنقذكم منها
ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب؛ نبه على ذلك بقوله - جوابا لمن يقول: "لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان! - كذلك ؛ أي: مثل هذا البيان البعيد المنال؛ البديع المثال؛ يبين الله ؛ المحيط علمه؛ الشاملة قدرته بعظمته؛ لكم آياته ؛ وعظم الأمر [ ص: 18 ] بتخصيصهم به؛ وإضافة الآي إليه؛ ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم؛ ختم الآية بقوله: لعلكم تهتدون ؛ أي: ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته؛ هذا الترجي حالكم فيما بينكم؛ وأما هو - سبحانه وتعالى - فقد أحاط علمه بالسعيد؛ والشقي؛ ثم الأمر إليه؛ فمن شاء هداه؛ ومن أراد أرداه.