يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن [ ص: 356 ] الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قوله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال . أحدها: موسى ، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا نترك الشريف ، ونقيمه على الوضيع ، فقلنا: تعالوا نجمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" فأمر به فرجم ، ونزلت هذه الآية ، رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بيهودي وقد حمموه وجلدوه ، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم ، فدعا رجلا من علمائهم ، فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على البراء بن عازب .
[ ص: 357 ] والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر ، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة .
والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهوديا ، ثم قال: سلوا محمدا فإن كان بعث بالدية ، اختصمنا إليه ، وإن كان بعث بالقتل ، لم نأته ، قاله الشعبي .
والرابع: أنها نزلت في المنافقين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والخامس: أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم على ماذا ننزل؟ فأشار إليهم: أنه الذبح ، قاله قال السدي . هو مقاتل: أبو لبابة بن عبد المنذر ، قالت له قريظة: أتنزل على حكم سعد ، فأشار بيده: أنه الذبح ، وكان حليفا لهم . قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية . ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم وهم المنافقون ، ومن الذين هادوا وهم اليهود .
(سماعون للكذب) قال هو مرفوع بالابتداء . قال سيبويه: ويجوز أن يكون رفعه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب . وفي معناه: أربعة أقوال . أبو الحسن الأخفش:
أحدها: سماعون منك ليكذبوا عليك . والثاني: سماعون للكذب ، أي: قائلون له . والثالث: سماعون للكذب الذي بدلوه في توراتهم . والرابع: سماعون للكذب ، أي: قابلون له ، ومنه: "سمع الله لمن حمده" أي: قبل .
[ ص: 358 ] وفي قوله (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) قولان .
أحدهما: يسمعون لأولئك ، فهم عيون لهم .
والثاني: سماعون من قوم آخرين ، وهم رؤساؤهم المبدلون التوراة .
وفي السماعين للكذب ، وللقوم الآخرين قولان .
أحدهما: أن "السماعين للكذب" يهود المدينة ، والقوم الآخرون [الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم] يهود فدك . والثاني: بالعكس من هذا .
وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال .
أحدها: أنه تغيير حدود الله في التوراة ، وذلك أنهم غيروا الرجم ، قاله والجمهور . ابن عباس ،
والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه ، قاله الحسن .
والثالث: إخفاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم . والرابع: إسقاط القود بعد استحقاقه .
والخامس: سوء التأويل ، وقال المعنى يحرفون حكم الكلم ، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك . ابن جرير:
قوله تعالى: من بعد مواضعه قال : أي: من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحل حلاله ، وحرم حرامه . الزجاج
قوله تعالى: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه في القائلين لهذا قولان .
أحدهما: أنهم اليهود ، وذلك أن رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا ، فكان حدهما الرجم ، فكرهت اليهود رجمهما ، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا ، وقالوا: إن أفتاكم بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به ، هذا قول الجمهور . [ ص: 359 ] والثاني: أنهم المنافقون . قال وذلك قتادة: أن بني النضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا منهم ، وإنما يعطونهم الدية ، فإذا قتلت قريظة من النضير لم يرضوا إلا بالقود تعززا عليهم ، فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمدا ، فأرادوا رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل من المنافقين: إن قتيلكم قتيل عمد ، ومتى ترفعوا ذلك إلى محمد خشيت عليكم القود ، فإن قبلت منكم الدية فأعطوا ، وإلا فكونوا منه على حذر . وفي معنى "فاحذروا" ثلاثة أقوال .
أحدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد . والثاني: فاحذروا أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به . والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها .
قوله تعالى: ومن يرد الله فتنته في "الفتنة" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها بمعنى: الضلالة ، قاله ابن عباس ، والثاني: العذاب ، قاله ومجاهد . الحسن ، والثالث: الفضيحة ، ذكره وقتادة . . الزجاج
قوله تعالى: فلن تملك له من الله شيئا أي: لا تغني عنه ، ولا تقدر على استنقاذه . وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر .
قوله تعالى: لم يرد الله أن يطهر قلوبهم قال يعني المنافقين واليهود ، لم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الكفر ، ووسخ الشرك بطهارة الإيمان والإسلام . السدي:
قوله تعالى: لهم في الدنيا خزي أما خزي المنافقين ، فبهتك سترهم وإطلاع النبي على كفرهم ، وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرجم ، وبأخذ الجزية منهم . قال وخزي مقاتل: قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي النضير بإجلائهم .