[ ص: 490 ] فصل قال " الشيخ عبد القادر " قدس الله روحه : " افن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمره وعن إرادتك بفعله لحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم الله " . قلت : فحكمه يتناول خلقه وأمره أي : افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعة ولا دفع مضرة . وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقا للأمر الشرعي لا لهواه وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه . فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات .
فالأول " يكون بالأمر و " الثاني " لا تكون له إرادة . ولا بد في هذا أن يقيد بأن لا تكون له إرادة لم يؤمر بها وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته سواء كان موافقا للقدر أم لا . وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين [ ص: 491 ] والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور . الإرادة الشرعية
قال الشيخ : " فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم ، وعن التردد إليهم ، واليأس مما في أيديهم " . وهو كما قال . فإذا كان القلب لا يرجوهم ولا يخافهم لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه كذهاب الرسل وأتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله فإن . ليكون عابدا لله متوكلا عليه وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به ; فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب ; بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه . التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد
قال الشيخ : " وعلامة فنائك عنك وعن هواك : ترك التكسب ، والتعلق بالسبب في جلب النفع ، ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك ، ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك ولا تذب عنك لكن تكل ذلك كله [ ص: 492 ] إلى من تولاه أولا فيتولاه آخرا . كما كان ذلك موكولا إليه في حال كونك مغيبا في الرحم وكونك رضيعا طفلا في مهدك " . قلت : وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ، ودفع ما تبغضه ويضرها فإذا فني عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله ، وترك ما يبغضه الله فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه ، وحينئذ فالنفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة فيكون في ذلك متوكلا على الله . و " الشيخ رحمه الله " ذكر هنا التوكل دون الطاعة ; لأن النفس لا بد لها من جلب المنفعة ، ودفع المضرة فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقا ; بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة لله ، وطاعة أمره بدون التوكل عليه كما أن . قال تعالى : { التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقال تعالى : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } .
و ( المقصود ) أن ومن كان واثقا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول إنه محتاج فيه إلى غيره . قال الشيخ - رضي الله عنه - : " وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام ; لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله ، ساكن الجوارح ، مطمئن الجنان ، مشروح الصدر ، منور الوجه ، عامر الباطن ، غنيا عن الأشياء بخالقها تقلبك يد القدرة ، ويدعوك لسان الأزل ، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورا منه والحلل ، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول فتكون منكسرا أبدا . فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة : كالإناء المتثلم - الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنى عن أخلاق البشرية فلن يقبل باطنك ساكنا غير إرادة الله فحينئذ يضاف إليك التكوين ، وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم وهو فعل الله تبارك وتعالى حقا في العلم فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون [ ص: 493 ] التوكل والاستعانة } " فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقا لما أشرت إليه وتقدم ، قال الله تعالى : " { حبب إلي من [ ص: 494 ] دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي } " وساق كلامه . وفيه : " { } " الحديث . قلت : هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل عبد القادر - رضي الله عنه - وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورا بإرادته فقوله : علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط . أي لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلا وأن قول أبي يزيد : " أريد ألا أريد " - لما قيل له : ماذا تريد ؟ - نقص وتناقض ; لأنه قد أراد ، ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقا وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط ممن قاله فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور [ ص: 495 ] فإن الحي لا بد له من إرادة فلا يمكن حيا ألا تكون له إرادة فإن أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له . والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه " الإرادة " فقال تعالى : { الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } وقال تعالى : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } وقال تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } وقال تعالى : { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } وقال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } وقال تعالى : { فاعبد الله مخلصا له الدين } { ألا لله الدين الخالص } وقال تعالى : { قل الله أعبد مخلصا له ديني } وقال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .