[ ص: 274 ] - 18 - : أمثال القرآن
الحقائق السامية في معانيها وأهدافها تأخذ صورتها الرائعة إذا صيغت في قالب حسي يقربها إلى الأفهام بقياسها على المعلوم اليقيني ، والتمثيل هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان ، بتشبيه الغائب بالحاضر ، والمعقول بالمحسوس ، وقياس النظير على النظير ، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالا ، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له ، واقتناع العقل به ، وهو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه .
ومن العلماء من أفرد الأمثال في القرآن بالتأليف ، ومنهم من عقد لها بابا في كتاب من كتبه ، فأفردها بالتأليف أبو الحسن الماوردي ، وعقد لها بابا السيوطي في الإتقان وابن القيم في كتاب إعلام الموقعين . حيث تتبع أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه الشيء بنظيره ، والتسوية بينهما في الحكم - فبلغت بضعة وأربعين مثلا .
وذكر الله في كتابه العزيز أنه يضرب الأمثال : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ، وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن الله أنزل القرآن آمرا وزاجرا ، وسنة خالية ، ومثلا مضروبا “ .
[ ص: 275 ] وكما عني العلماء بأمثال القرآن فإنهم عنوا كذلك بالأمثال النبوية . وعقد لها بابا في جامعه أورد فيه أربعين حديثا . وقال أبو عيسى الترمذي : " لم أر من أهل الحديث من صنف فأفرد للأمثال بابا غير القاضي أبو بكر بن العربي أبي عيسى ، ولله دره ، لقد فتح بابا ، وبنى قصرا أو دارا ، ولكنه اختط خطا صغيرا . فنحن نقنع به ، ونشكره عليه " .
تعريف المثل
والأمثال : جمع مثل ، والمثل والمثل والمثيل : كالشبه والشبه والشبيه لفظا ومعنى .
والمثل في الأدب : قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حكي فيه بحال الذي قيل لأجله ، أي يشبه مضربه بمورده ، مثل : " رب رمية من غير رام " أي رب رمية مصيبة حصلت من رام شأنه أن يخطئ ، وأول من قال هذا الحكم بن يغوث النقري ، يضرب للمخطئ يصيب أحيانا ، وعلى هذا فلا بد له من مورد يشبه مضربه به .
ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن . وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات . كقوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن : أي قصتها وصفتها التي يتعجب منها .
وأشار إلى هذه المعاني الثلاثة في كشافه فقال : " والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده : مثل ، ولم يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه " . ثم قال : " وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة " . الزمخشري
[ ص: 276 ] وهناك معنى رابع ذهب إليه علماء البيان في تعريف المثل فهو عندهم : المجاز المركب الذي تكون علاقته المتشابهة متى فشا استعماله . وأصله الاستعارة التمثيلية . كقولك للمتردد في فعل أمر : " ما لي أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " .
وقيل في ضابط المثل كذلك : إنه إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالا . والمثل بهذا المعنى لا يشترط أن يكون له مورد ، كما لا يشترط أن يكون مجازا مركبا .
وإذا نظرنا إلى أمثال القرآن التي يذكرها المؤلفون وجدنا أنهم يوردون الآيات المشتملة على تمثيل حال أمر بحال أمر آخر ، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة ، أم بطريق التشبيه الصريح ، أو الآيات الدالة على معنى رائع بإيجاز ، أو التي يصح استعمالها فيما يشبه ما وردت فيه ، فإن الله تعالى ابتدأها دون أن يكون لها مورد من قبل .
فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبيه والنظير ، ولا يستقيم حملها على ما يذكر في كتب اللغة لدى من ألفوا في الأمثال ، إذ ليست أمثال القرآن أقوالا استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها ، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان فمن أمثال القرآن ما ليس باستعارة وما لم يفش استعماله . ولذا كان الضابط الأخير أليق بتعريف المثل في القرآن : فهو إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة لها وقعها في النفس ، سواء أكانت تشبيها أو قولا مرسلا .
فابن القيم يقول في أمثال القرآن : تشبيه شيء بشيء في حكمه ، وتقريب المعقول من المحسوس ، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر . ويسوق الأمثلة : فتجد أكثرها على طريقة التشبيه الصريح كقوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، ومنها ما يجيء على طريقة التشبيه الضمني ، كقوله تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن [ ص: 277 ] يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، إذ ليس فيه تشبيه صريح . ومنها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة ، كقوله تعالى : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ، فقوله : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا . . قد سماه الله مثلا وليس فيه استعارة ولا تشبيه . "