فصل في تحريم ، وسقوط الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص ، وذكر إجماع العلماء على ذلك . [ الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص ] الدلائل على أن النص لا اجتهاد معه
قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } . وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } وقال تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } وقال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } وقال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وقال تعالى : { إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين } وقال تعالى : { له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا } وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } فأكد هذا التأكيد وكرر هذا التقرير في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله ، وعموم مضرته ، وبلية الأمة به ، وقال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وأنكر تعالى على من حاج في دينه بما ليس له به علم فقال : [ ص: 200 ] { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون في ما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ونهى أن يقول أحد هذا حلال وهذا حرام لما لم يحرمه الله ورسوله نصا ، وأخبر أن فاعل ذلك مفتر على الله الكذب ، فقال : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم } والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وأما السنة ففي الصحيحين من حديث { ابن عباس هلال بن أمية قذف امرأته شريك بن سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله عليه وسلم : أبصروها ; فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن } يريد - والله ورسوله أعلم - بكتاب الله قوله تعالى { أن ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } ويريد بالشأن - والله أعلم - أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به ، ولكن كتاب الله فصل الحكومة ، وأسقط كل قول وراءه ، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع . [ من أقوال العلماء في ذلك المعنى ]
وقال : أخبرنا الشافعي عن سفيان بن عيينة عن أبيه قال : أرسل عبد الله بن أبي يزيد إلى شيخ من عمر بن الخطاب زهرة كان يسكن دارنا ، فذهبت معه إلى رضي الله عنه ، فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية ، فقال : أما الفراش فلفلان ، وأما النطفة فلفلان ; فقال عمر : صدقت ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم { عمر قضى بالفرش } .
قال : وأخبرني من لا أتهم عن الشافعي قال : أخبرني ابن أبي ذئب مخلد بن خفاف قال : ابتعت غلاما ، فاستغللته ، ثم ظهرت منه على عيب ، فخاصمت فيه إلى ، فقضى لي برده ، وقضى علي برد غلته ، فأتيت عمر بن عبد العزيز فأخبرته ، فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عروة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى في مثل هذا أن { عائشة } فعجلت إلى الخراج بالضمان فأخبرته بما أخبرني به عمر عروة عن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عائشة عمر : فما أيسر هذا علي من قضاء قضيته ، اللهم إنك تعلم أني لم أرد فيه إلا الحق ; فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرد قضاء وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فراح إليه عمر عروة ; فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له . [ ص: 201 ]
قال : وأخبرني من لا أتهم من أهل الشافعي المدينة عن قال : قضى ابن أبي ذئب على رجل بقضية برأي سعد بن إبراهيم ، فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به ، فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن سعد : هذا لربيعة ، وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيت به ، فقال له ابن أبي ذئب : قد اجتهدت ومضى حكمك ، فقال ربيعة : واعجبا ، أنفذ قضاء سعد سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه ، فليوحشنا المقلدون ، ثم أوحش الله منهم . سعد
وقال أبو النضر هاشم بن الرسم : حدثنا عن محمد بن راشد عن عبدة بن أبي لبابة هشام بن يحيى المخزومي أن رجلا من ثقيف أتى فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ، ألها أن تنفر ؟ فقال عمر بن الخطاب : لا ، فقال له الثقفي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به ، فقام إليه عمر يضربه بالدرة ويقول له : لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ورواه عمر أبو داود بنحوه .
وقال : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة صالح بن عبد الله ثنا سفيان بن عامر عن عتاب بن منصور قال : قال عمر بن عبد العزيز : لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال : أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس . وتواتر عنه أنه قال : إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط ، وصح عنه أنه قال : إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب ، وصح عنه أنه قال : لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . الشافعي
وقال : عن إسرائيل عن أبي إسحاق سعد بن إياس عن أن رجلا سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته ، فطلق امرأته ليتزوج أمها ، فقال : لا بأس ، فتزوجها الرجل ، وكان ابن مسعود عبد الله على بيت المال ; فكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل ، حتى قدم المدينة فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لا تحل لهذا الرجل هذه المرأة ، ولا تصلح الفضة إلا وزنا بوزن ، فلما قدم انطلق إلى الرجل فلم يجده ، ووجد قومه فقال : إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل ، وأتى الصيارفة فقال : يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل ، لا تحل الفضة إلا وزنا بوزن . عبد الله
وفي صحيح من حديث مسلم عن الليث يحيى بن سعيد عن أن سليمان بن يسار أبا هريرة وابن عباس تذاكروا في المتوفى عنها الحامل تضع عند [ ص: 202 ] وفاة زوجها ، فقال وأبا سلمة بن عبد الرحمن : تعتد آخر الأجلين ، فقال ابن عباس : تحل حين تضع ، فقال أبو سلمة : وأنا مع ابن أخي ، فأرسلوا إلى أبو هريرة فقالت : { أم سلمة سبيعة بعد وفاة زوجها بيسير ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج } . قد وضعت
وقد تقدم من ذكر رجوع رضي الله عنه عمر وأبي موسى عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية . وابن عباس
وقال شداد بن حكيم عن : إنما نأخذ بالرأي ما لم نجد الأثر ، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي ، وأخذنا بالأثر . زفر بن الهذيل
وقال : لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه ، وقد كان محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة رحمه الله تعالى له أصحاب ينتحلون مذهبه ، ولم يكن مقلدا ، بل إماما مستقلا كما ذكر إمام الأئمة ابن خزيمة في مدخله عن البيهقي ، قال : طبقات أصحاب الحديث خمسة : المالكية ، والشافعية ، والحنبلية ، والراهوية ، والخزيمية أصحاب يحيى بن محمد العنبري . ابن خزيمة
وقال : إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ، ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبدا ، إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه . وقال في كتاب اختلافه مع الشافعي : ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتيانهما . مالك
وقال : قال لي قائل : دلني على أن الشافعي عمل شيئا ثم صار إلى غيره لخبر نبوي ، قلت له : حدثنا عمر سفيان عن الزهري عن أن ابن المسيب كان يقول : الدية للعاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها ، حتى أخبره عمر الضحاك بن سفيان { الضبابي من ديته } فرجع إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة ، وأخبرنا عمر عن ابن عيينة عمرو أن وابن طاوس قال : أذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا ، فقام { عمر حمل بن مالك بن النابغة فقال : كنت بين جاريتين لي ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنينا ميتا ، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة } ، فقال : لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا ، أو قال : إن كدنا لنقضي فيه برأينا ، فترك اجتهاده رضي الله عنه للنص . عمر