[ ] الإقرار بالدين المؤجل
المثال الثالث والثلاثون : إذا كان عليه دين مؤجل فادعى به صاحبه وأقر به فالصحيح المقطوع به أنه لا يؤاخذ به قبل أجله ; لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فإلزامه به على غير ما أقر به إلزام بما لم يقر به ، وقال بعض أصحاب أحمد : يكون مقرا بالحق مدعيا لتأجيله ، فيؤاخذ بما أقر به ، ولا تسمع منه دعواه الأجل إلا ببينة ، وهذا في غاية الضعف ، فإنه إنما أقر به إقرارا مقيدا لا مطلقا ; فلا يجوز أن يلغي التقييد ويحكم عليه بحكم الإقرار المطلق كما لو والشافعي ، أو قال : له علي ألف إلا خمسين أو له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه ; فيلزمهم في هذا ونحوه أن يبطلوا هذه التقييدات كلها ويلزموه بألف كاملة من النقد الغالب ، ولا يقبل قوله : إنها من ثمن مبيع لم أقبضه ، ومما يبين بطلان هذا القول أن إقرار المرء على نفسه شهادة منه على نفسه كما قال تعالى : { له علي ألف من نقد كذا وكذا أو معاملة كذا وكذا يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } .
ولو شهد عليه شاهدان بألف مؤجلة لم يحكم عليه بها قبل الأجل اتفاقا ، فهكذا إذا أقر بها مؤجلة فالحيلة في خلاصه من الإلزام بهذا القول الباطل أن يقول : لا يلزمني توفية ما تدعي علي أداءه إليك إلى مدة كذا وكذا ، ولا يزيد على هذا ، فإن ألح عليه وقال : " لي عليك كذا أم ليس لي عليك شيء ؟ " ولا بد من أن يجيب بأحد الجوابين ، فالحيلة في خلاصه أن يقول : إن ادعيتها مؤجلة فأنا مقر بها ، وإن ادعيتها حالة فأنا منكر .
وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف أن يقول : كان له علي وقضيته ، فيجعله الحاكم مقرا بالحق مدعيا لقضائه ; فالحيلة أن يقول : ليس له علي شيء ، ولا يلزمني أداء ما يدعيه ، [ ص: 283 ] فإن ألح عليه لم يكن له جواب غير هذا ، على أن القول الصحيح أنه لا يكون مقرا بالحق مدعيا لقضائه ، بل منكرا الآن لثبوته في ذمته فكيف يلزم به ؟ فإن قيل : هو أقر بثبوت سابق وادعى قضاء طارئا عليه .
قيل : لم يقر بثبوت مطلق بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي ، ولم يقر بأنه ثابت الآن في ذمته ; فلا يجوز إلزامه به الآن استنادا إلى إقراره به في الزمن الماضي ; لأنه غير منكر ثبوته في الماضي ، وإنما هو منكر لثبوته الآن ، فكيف يجعل مقرا بما هو منكر له ؟ وقياسهم هذا الإقرار على قوله : " له علي ألف لا يلزمني أو لا يثبت في ذمتي " قياس باطل ، فإنه كلام متناقض لا يعقل ، وأما هذا فكلام معقول ، وصدقه فيه ممكن ، ولم يقر بشغل ذمته الآن بالمدعى به ، فلا يجوز شغل ذمته به بناء على إقراره بشغلها في الماضي ، وما نظير هذا إلا قول الزوج : " كنت طلقت امرأتي وراجعتها " فهل يجعل بهذا الكلام مطلقا الآن ؟ وقول القائل : كنت فيما مضى كافرا ثم أسلمت ، فهل يجعل بهذا الكلام كافرا الآن ؟ .
وقول القائل : كنت عبدا فأعتقني مولاي ، هل يجعل بهذا الكلام رقيقا ؟ فإن طردوا الحكم في هذا كله وطلقوا الزوج وكفروا المعترف بنعمة الله عليه وأنه كان كافرا فهداه الله وأمروه أن يجدد إسلامه وجعلوا هذا قنا .
قيل لهم : فاطردوا ذلك فيمن قال : فيقبل إقراره ولا تقبل دعواه فمن جرت هذه الكلمة على لسانه وقال الواقع فأخرجوا ملكه من يده ، وكذلك إذا كانت هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الأرض أو هذه الدابة لفلان ثم اشتريتها منه ، فأخرجوها من ملكه بهذا الكلام ، وقولوا : قد أقر بها لفلان ثم ادعى [ أنه ] اشتراها ، اجعلوها بمجرد هذا الكلام زوجته ، والكلام بآخره ، فلا يجوز أن يؤخذ منه بعضه ويلغى بعضه ، ويقال قد لزمك حكم ذلك البعض ، وليس علينا من بقية كلامك ; فإن هذا يرفع حكم الاستثناء والتقييدات جميعها ، وهذا لا يخفى فساده . قالت المرأة : كنت مزوجة بفلان ثم طلقني
ثم إن هذا على أصل من لا يقبل الجواب إلا على وفق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلص من ظلم المدعي ، ويلجئه إلى أن يقر له بما يتوصل به الإضرار به وظلمه ، أو إلى أن يكذب بيانه أنه إذا استدان منه ووفاه ، فإن قال : " ليس له علي شيء " لم يقبلوا منه ; لأنه لم يجب على نفي الدعوى ، وإن قال : " كنت استدنت منه ووفيته " لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه أوله ، وإن قال : " لم أستدن منه " وكان كاذبا فقد ألجأتموه إلى أن يظلم أو يكذب ولا بد ; فالحيلة لمن بلي بهذا القول أن يستعمل التورية ، ويحلف ما استدان منه ، وينوي أن تكون ما موصولة ، فإذا قال : " والله إني ما استدنت منه " أي إني الذي استدنت منه ، وينفعه تأويله بالاتفاق إذا كان مظلوما ، كما لا ينفعه إذا كان ظالما بالاتفاق