( الفرق الثالث والستون والمائتان بين قاعدة المكفرات وقاعدة أسباب المثوبات )
اعلم أن كثيرا من الناس يعتقدون أن المصائب سبب في رفع الدرجات وحصول المثوبات وليس كذلك بل تحرير الفرق بينهما أن المثوبات لها شرطان أحدهما أن تكون من كسب العبد ومقدوره فما
[ ص: 232 ] لا كسب له فيه وما لا في قدرته ، أو هو من جنس مقدوره غير أنه لم يقع بمقدوره كالجناية على عضو من أعضائه لا مثوبة فيه ، وأصل ذلك قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فحصر ماله فيما هو من سعيه وكسبه وقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=16إنما تجزون ما كنتم تعملون } فحصر الجزاء فيما هو معمول لنا ومقدور ، وثانيهما : أن يكون ذلك المكتسب مأمورا به فما لا أمر فيه لا ثواب فيه كالأفعال قبل البعثة ، وكأفعال الحيوانات العجماوات مكتسبة مرادة لها واقعة باختيارها ، ولا ثواب لها فيها لعدم الأمر بها ، وكذلك الموتى يسمعون في قبورهم المواعظ والقرآن والذكر والتسبيح والتهليل ، ولا ثواب لهم فيه على الصحيح ؛ لأنهم غير مأمورين بعد الموت ، ولا منهيين فلا إثم ، ولا ثواب
[ ص: 233 ] لعدم الأمر والنهي هذا أحد أسباب المثوبات .
وأما المكفرات فلا يشترط فيها شيء من ذلك بل قد تكون كذلك مكتسبة مقدورة من باب الحسنات لقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114إن الحسنات يذهبن السيئات } وقد لا تكون كذلك كما تكفر التوبة والعقوبات السيئات ، وتمحو آثارها ، ومن ذلك المصائب المؤلمات لقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=30وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ولقوله عليه السلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87603لا يصيب المؤمن [ ص: 234 ] من وصب ، ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها ذنوبه } فالمصيبة كفارة للذنوب جزما سواء اقترن بها السخط أو الصبر والرضا فالسخط معصية أخرى ، ونعني بالسخط عدم الرضا بالقضاء كما تقدم تقريره لا التألم من المقضيات كما تقدم بيانه ، والصبر من القرب الجميلة ، فإذا تسخط جعلت سيئة ثم قد تكون هذه السيئة قدر السيئة التي كفرتها المصيبة أو أقل أو أعظم بحسب كثرة السخط وقلته وعظم المصيبة وصغرها فإن المصيبة العظيمة تكفر من السيئات أكثر من المصيبة اليسيرة فالتكفير واقع قطعا تسخط المصاب أو صبر غير أنه إن صبر اجتمع التكفير والأجر ، وإن تسخط فقد يعود الذي تكفر بالمصيبة بما جناه من التسخط أو أقل منه أو أكثر ، وعلى هذا يحمل ما في بعض الأحاديث من ترتيبه المثوبات على المصائب أي إذا صبر ليس إلا فالمصيبات لا ثواب فيها قطعا من جهة أنها مصيبة ؛ لأنها غير مكتسبة .
والتكفير بالمصيبة يقع بالمكتسب وغير المكتسب ، ومنه قوله : عليه السلام في
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم وغيره {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87604لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد إلا كن له حجابا من النار قالت قلت : يا رسول الله واثنان قال واثنان وخلته لو قلت له : وواحد لقال وواحد } والحجاب راجع إلى معنى التكفير أي تكفر مصيبة فقد الولد ذنوبا كان شأنها أن يدخل بها النار فلما كفرت تلك الذنوب بطل دخول النار بسببها فصارت المصيبة كالحجاب المانع من دخول النار
[ ص: 235 ] من جهة مجاز التشبيه ، واعلم أن التكفير في موت الأولاد ونحوهم إنما هو بسبب الآلام الداخلة على القلب من فقد المحبوب ، فإن كثر كثر التكفير ، وإن قل قل التكفير فلا جرم يكون التكفير على قدر نفاسة الولد في صفاته ونفاسته في بره وأحواله ، فإن كان الولد مكروها يسر بفقده فلا كفارة بفقده ألبتة ، وإنما أطلق عليه السلام التكفير بموت الأولاد بناء على الغالب أنه يؤلم فظهر لك
nindex.php?page=treesubj&link=28847_28852الفرق بين المكفرات وأسباب المثوبات بهذه التقادير والمباحث ، وعلى هذا البيان لا يجوز أن تقول لمصاب بمرض أو فقد محبوب أو غير ذلك : جعل الله لك هذه المصيبة كفارة ؛ لأنها كفارة قطعا
nindex.php?page=treesubj&link=19767والدعاء بتحصيل الحاصل حرام لا يجوز ؛ لأنه قلة أدب مع الله - تعالى ، وقد بسطت هذا في كتاب المنجيات والموبقات في الأدعية بل يقال : اللهم عظم له الكفارة ؛ لأن تعظيمها لم يعلم ثبوته بخلاف أصل التكفير فإنه معلوم لنا بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة فلا يجوز طلبه فاعلم
[ ص: 236 ] ذلك فيه وفي نظائره
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ )
اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَثُوبَاتِ لَهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ فَمَا
[ ص: 232 ] لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَمَا لَا فِي قُدْرَتِهِ ، أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِمَقْدُورِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا مَثُوبَةَ فِيهِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَحَصَرَ مَالَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=16إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ ، وَثَانِيهِمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ، وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ مُكْتَسَبَةٌ مُرَادَةٌ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا ، وَلَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ ، وَلَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا مَنْهِيِّينَ فَلَا إثْمَ ، وَلَا ثَوَابَ
[ ص: 233 ] لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ .
وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ ، وَتَمْحُو آثَارَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=30وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87603لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ [ ص: 234 ] مِنْ وَصَبٍ ، وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُ } فَالْمُصِيبَةُ كَفَّارَةٌ لِلذُّنُوبِ جَزْمًا سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهَا السَّخَطُ أَوْ الصَّبْرُ وَالرِّضَا فَالسَّخَطُ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى ، وَنَعْنِي بِالسَّخَطِ عَدَمَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ لَا التَّأَلُّمَ مِنْ الْمَقْضِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَالصَّبْرُ مِنْ الْقُرَبِ الْجَمِيلَةِ ، فَإِذَا تَسَخَّطَ جُعِلَتْ سَيِّئَةً ثُمَّ قَدْ تَكُونُ هَذِهِ السَّيِّئَةُ قَدْرَ السَّيِّئَةِ الَّتِي كَفَّرَتْهَا الْمُصِيبَةُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَعْظَمَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ السَّخَطِ وَقِلَّتِهِ وَعِظَمِ الْمُصِيبَةِ وَصِغَرِهَا فَإِنَّ الْمُصِيبَةَ الْعَظِيمَةَ تُكَفِّرُ مِنْ السَّيِّئَاتِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُصِيبَةِ الْيَسِيرَةِ فَالتَّكْفِيرُ وَاقِعٌ قَطْعًا تَسَخَّطَ الْمُصَابُ أَوْ صَبَرَ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ صَبَرَ اجْتَمَعَ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ ، وَإِنْ تَسَخَّطَ فَقَدْ يَعُودُ الَّذِي تَكَفَّرَ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا جَنَاهُ مِنْ التَّسَخُّطِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى الْمَصَائِبِ أَيْ إذَا صَبَرَ لَيْسَ إلَّا فَالْمُصِيبَاتُ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ .
وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87604لَا يَمُوتُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ إلَّا كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَخِلْته لَوْ قُلْت لَهُ : وَوَاحِدٌ لَقَالَ وَوَاحِدٌ } وَالْحِجَابُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّكْفِيرِ أَيْ تُكَفِّرُ مُصِيبَةُ فَقْدِ الْوَلَدِ ذُنُوبًا كَانَ شَأْنَهَا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَلَمَّا كَفَّرَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ بَطَلَ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِهَا فَصَارَتْ الْمُصِيبَةُ كَالْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ
[ ص: 235 ] مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْفِيرَ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ ، فَإِنْ كَثُرَ كَثُرَ التَّكْفِيرُ ، وَإِنْ قَلَّ قَلَّ التَّكْفِيرُ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ عَلَى قَدْرِ نَفَاسَةِ الْوَلَدِ فِي صِفَاتِهِ وَنَفَاسَتِهِ فِي بِرِّهِ وَأَحْوَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يُسَرُّ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ فَظَهَرَ لَك
nindex.php?page=treesubj&link=28847_28852الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ بِهَذِهِ التَّقَادِيرِ وَالْمَبَاحِثِ ، وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمُصَابٍ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا
nindex.php?page=treesubj&link=19767وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى ، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ : اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ
[ ص: 236 ] ذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ