( المسألة السابعة )
في اعلم أن دلالة هذه المثل على المعاني كدلالة الألفاظ الصوتية ، والرقوم الكتابية عليها ، واعلم أنه يقع فيها جميع ما يقع في الألفاظ من المشترك والمتواطئ والمترادف والمتباين والمجاز والحقيقة والمفهوم والخصوص والعموم والمطلق والمفيد والتصحيف والقلب والجمع بينهما والصريح والكناية والمعاريض حتى يقع فيه ما يقع في الألفاظ من قول العرب تحقيق مثل الرؤيا وبيانها أبو يوسف أبو حنيفة وزيد زهير شعرا وحاتم جودا ، وجميع أنواع المجاز فالمشترك كالفيل هو ملك أعجمي ، وهو الطلاق الثلاث نقله الكرماني ؛ لأن عادة الهند إذا طلق أحد ثلاثا جرسوه على فيل فلما كان من لوازم الطلاق عبر به عن الطلاق ، والمتواطئ كالشجرة ، وهو رجل أي رجل كان دالة على القدر المشترك بين جميع الرجال ثم إن كانت تنبت في العجم فهو رجل أعجمي ، أو عند العرب فهو رجل عربي أو لا ثمر لها فلا خير فيه أو لها شوك فهو كثير الشر أو ثمرها له قشر فله خير لا يوصل إليه إلا بعد مشقة أو لا قشر له كالتفاح فيوصل لخيره بلا مشقة إلى غير ذلك ، وهذا هو المقيد والمطلق فحصلت الأمور بالقيود الخارجة ، وكذلك يقع التقييد بأحوال الرائي فالصاعد على المنبر يلي ولاية فالولاية مشتركة بين الولايات ومطلقة فإن كان الرائي فقيها كانت الولاية قضاء أو أميرا فوال أو من بيت الملك فملك إلى غير ذلك .
وكذلك تنصرف للخير بقرينة الرائي وحاله ، وإن كان ظاهرها الشر ، وتنصرف للشر بقرينة الرائي وحاله ، وإن كان ظاهرها الخير كمن رأى أنه مات فالرجل الخير ماتت حظوظه وصلحت نفسه ، والرجل الشرير مات قلبه لقوله تعالى { أومن كان ميتا فأحييناه } أي كافرا فأسلم ، ومنه قوله تعالى { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } أي الكافر من المسلم والمسلم من الكافر على أحد التأويلات ، والمترادفة كالفاكهة فالصفراء تدل على [ ص: 249 ] الهم وحمل الصغير يدل عليه أيضا والمتباين كالأخذ من الميت والدفع له الأول جيد ؛ لأنه كسب من جهة ميئوس منها ، والثاني رديء ؛ لأنه صرف رزق لمن لا ينتفع به ، وربما كان لمن لا دين له ؛ لأن الدين ذهب عن الموتى لذهاب التكليف عنهم ، والمجاز والحقيقة كالبحر هو السلطان حقيقة ويعبر به عن سعة العلم مجازا ، والعموم كمن رأى أن أسنانه كلها سقطت في التراب فإنه يموت أقاربه كلها ، فإن كان في نفس الأمر إنما يموت بعض أقاربه قبل موته فهو عام أريد به الخصوص ، وأما فكالرؤيا يراها الرائي لشخص ، والمراد غيره ممن هو يشبهه أو بعض أقاربه ، أو من تسمى باسمه أو نحو ذلك ممن يشاركه في صفته فيعبر عنه به كما عبرنا عن أبو يوسف أبي يوسف لمشاركته له في صفة الفقه وعبرنا عن بأبي حنيفة زيد بزهير لمشاركته له في الشعر ونحو ذلك من المثل والقلب كما رأى المصريون أن رواسا أخذ منهم الملك فعبر لهم بأن يأخذه وكان كذلك وقلب شاور رواس وجمع هذا المثال بين القلب والتصحيف فإن السين المهملة صحفت بالمعجمة التي هي الشين ورأى ملك العرب قائلا يقول له : خالف الحق من عذر فقيل : له أنت تقصد النكث على بعض الناس فحذرت من ذلك في الرؤيا خالف الحق من غدر فدخله التصحيف فقط وبسط هذه التفاصيل في كتب التعبير وإنما قصدت التنبيه على هذه المثل كالألفاظ في الدلالة ، وأنها تشاركها في أحوالها ( تنبيه ) شاور
اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته وتشعبت تخصيصاته وتنوعت تعريفاته بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين بخلاف تفسير القرآن العظيم والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم فإن ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر وعلم المنامات منتشر انتشارا شديدا لا يدخل تحت ضبط فلا جرم احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على الفراسة والاطلاع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب أو تحققه كما قيل في رضي الله عنهما : إنه كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق إشارة إلى قوة أودعه الله إياها فرأى بما أودعه الله - تعالى - في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة واللطافة فمن الناس من هو كذلك وقد يكون ذلك عاما في جميع الأنواع . ابن عباس
وقد يهبه الله - تعالى - ذلك [ ص: 250 ] باعتبار المنامات فقط أو بحساب علم الرمل فقط أو الكتف الذي للغنم فقط أو غير ذلك فلا ينفتح له بصحة القول والنطق في غيره ، ومن ليس له قوة نفس في هذا النوع صالحة لعلم تعبير الرؤيا لا يصح منه تعبير الرؤيا ، ولا يكاد يصيب إلا على الندرة فلا ينبغي له التوجه إلى علم التعبير في الرؤيا ، ومن كانت له قوة نفس فهو الذي ينتفع بتعبيره وقد رأيت ممن له قوة نفس مع هذه القواعد فكان يتحدث بالعجائب والغرائب في المنام اللطيف ويخرج منه الأشياء الكثيرة والأحوال المتباينة ويخبر فيه عن الماضيات والحاضرات والمستقبلات وينتهي في المنام اليسير إلى نحو المائة من الأحكام بالعجائب والغرائب حتى يقول من لا يعلم بأحوال قوى النفوس : إن هذا من الجان أو المكاشفة أو غير ذلك وليس كما قال بل هو قوة نفس يجد بسببها تلك الأحوال عند توجهه للمنام ، وليس هو صلاح ، ولا كشف ، ولا من قبل الجان وقد رأيت أنا من هذا النوع جماعة واختبرتهم فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير ، ولا ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفس فلا تجد ذلك أبدا ، ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبط فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من الناس
[ ص: 249 - 250 ]