( الفرق التاسع والخمسون بين قاعدة وبين عدم علة الإذن أو التحريم ) عدم علة غيرهما من العلل
اعلم أن عدم كل واحدة من هاتين العلتين علة للحكم الآخر بخلاف غيرهما من العلل فعدم علة الإذن علة التحريم وعدم علة التحريم علة الإذن .
وأما عدم علة الوجوب فلا يلزم منه شيء فقد يكون غير الواجب محرما وقد يكون مباحا أو مندوبا أو مكروها ، وكذلك عدم علة الندب أو الكراهة قد يكون الفعل بعد ذلك واجبا أو محرما أو مباحا أو متى عدمت علة الإذن تعين التحريم ومتى عدمت علة التحريم تعين الإذن ويتضح ذلك بذكر ثلاث مسائل .
( المسألة الأولى ) فمتى كانت العين ليست بمستقذرة فحكم الله تعالى في تلك العين عدم النجاسة وأن تكون طاهرة فعلة الطهارة عدم علة النجاسة فهذا هو شأن هذا المقام إلا أن يحدث معارض من جهة أخرى يعارضنا عند عدم العلة كما في الخمر ، فإن الخمر ليست بمستقذرة وإنما قضي بتنجيسها ؛ لأنها مطلوبة الإبعاد والقول بتنجيسها يفضي إلى إبعادها وما يفضي إلى المطلوب مطلوب فتنجيسها مطلوب فتكون نجسة فهذه علة أخرى غير الاستقذار وجدت عند عدمه فقامت مقامه وإلا فالحكم ما ذكر عند عدم المعارض وأكثر الفقهاء يمكنه أن يعلل النجاسة وإذا سألته عن علة الطهارة لا يعلمها وهي عدم علة النجاسة وإذا سئل أيضا أكثر الفقهاء عن النجاسة إلى أي الأحكام الخمسة ترجع ربما عسر عليه ذلك وظن أنها حكم آخر من أحكام الوضع أو غيرها وليس كذلك بل هي ترجع إلى أحد الأحكام الخمسة وهو التحريم وكذلك [ ص: 35 ] إذا قيل لهم ما الطهارة عسر عليهم ذلك حتى رأيت لبعض الأكابر أن الطهارة عبارة عن استعمال الماء الطهور في العين التي قضي عليها بالطهارة وهذا ليس بصحيح فإن بطون الجبال وتلال الرمال وبطون الأرض طاهرة مع عدم استعمال الماء فيها بل النجاسة ترجع إلى تحريم الملابسة في الصلوات والأغذية لأجل الاستقذار أو التوسل للإبعاد فقولي لأجل الاستقذار احترازا من السموم فإنها تحرم ملابستها في الأغذية ، وكذلك الأغذية والأشربة الموجبة للأسقام والأمراض تحرم ملابستها في الأغذية وليست نجسة وقولي أو التوسل للإبعاد احترازا من الخمر حتى تندرج في الحد ، ولو اقتصرت على قولي تحرم ملابستها في الصلوات لكان ذلك كافيا لكن أردت بذكر الأغذية زيادة البيان والطهارة عبارة عن إباحة الملابسة في الصلوات وبهذا التفسير تندرج بطون الجبال وسائر الأعيان فظهر أن النجاسة ترجع للتحريم والطهارة ترجع للإباحة وأن عدم علة التنجيس علة الطهارة وأن عدم علة التحريم علة الإباحة . علة النجاسة الاستقذار
( المسألة الثانية ) فمتى زال الإسكار زال التحريم وثبت الإذن وجاز أكلها وشربها وعلة إباحة شرب العصير مسالمته للعقل وسلامته عن المفاسد فعدم هذه المسالمة والسلامة علة لتحريمه فظهر أيضا في هذه المسألة أن عدم التحريم علة الإذن وعدم علة الإذن علة التحريم . تحريم الخمر معلل بالإسكار
( المسألة الثالثة ) أحدهما الأسباب الموجبة للوضوء فلذلك يقال أحدث إذا خرج منه خارج وثانيهما أنه المنع المرتب على هذا السبب وهو المراد بقول العلماء ينوي رفع الحدث بفعله أي ينوي ارتفاع المنع المرتب على ذلك السبب المتقدم ولا يمكن في نيته رفع الحدث إلا بهذا فإن تلك الأسباب الموجبة للوضوء يستحيل رفعها ؛ لأنها صارت واقعة داخلة في الوجود ولا يمكن لعاقل أن يقول إنه يرفع تلك الأعيان المستقذرة من غيرها بوضوء بل الذي ينوي برفعه هذا المنع المرتب على تلك الأسباب ، والمنع وإن كان أيضا وقع وصار من جملة الواقعات والواقعات يستحيل رفعها غير أن المقصود برفعه منع استمراره كما أن عقد النكاح يمنع استمرار منع الوطء في الأجنبية كذلك هاهنا وأكثر الفقهاء لا يعرف معنى الحدث أيضا وهو يرجع إلى تحريم ملابسة الصلاة حتى يتطهر وإذا كان الحدث عبارة عن التحريم ، فإذا تطهر الإنسان وصار يباح له الإقدام على العبادة فالإباحة في هذه الحالة مضافة إلى عدم سبب يقتضي وجوب استعمال الماء في الطهارة فعلة هذه الإباحة عدم علة التحريم التي هي علة الحدث الذي هو المنع فذلك الخارج مثلا هو علة التحريم وعدمه علة الإباحة بعد التطهر واستعمال الماء سبب ارتفاع ذلك المنع وحصول [ ص: 36 ] هذه الإباحة فحصل أيضا في هذا المثال أن علة الإباحة عدم علة التحريم وعدم سبب الإباحة علة التحريم فتأمل ذلك فإن قلت لم لا يكون الوضوء مثلا هو سبب الإباحة وعدمه هو علة التحريم ولا حاجة إلى اعتبار تلك الفضلات المستقذرة وغيرها من الملامسة ونحوها قلت لا خفاء أن الوضوء موجب للإباحة في الإقدام على الصلوات وما هو مشترط فيه الوضوء ونقول على هذا التقدير الطهارة سبب للإباحة المستمرة حتى يطرأ الحدث والحدث سبب المنع المستمر حتى تطرأ الطهارة ويحصل المقصود فإن عدم الطهارة بالكلية سبب المنع وعدم الحدث بالكلية سبب الإباحة فإن قلت فمن لم يحدث قط يلزمك أن تباح له الصلاة وإن لم يتطهر ؛ لأن سبب الإباحة موجود في حقه وهو عدم الحدث قلت التزمه مع أنه فرض محال فإن الإنسان لا بد له أن تخرج منه فضلات غذائه بعد الولادة وعند الولادة فإذا فرض وقوع هذا المحال وهو عدم خروج شيء منه ألبتة لا مانع لي من التزام الإباحة في حقه لا بنص ولا إجماع ولا قياس . الحدث له معنيان
وكذلك أقول في الجنابة والحيض والنفاس في سبب المنع المستمر حتى تطرأ الطهارة والطهارة سبب الإباحة المستمرة حتى تطرأ هذه الأحداث وعدم هذه الأحداث سبب الإباحة من هذا الوجه فلولا اشتراط صاحب الشرع الوضوء لأبحنا الصلاة لمن عدمت في حقه هذه الأحداث الكبار وصح لنا حينئذ في الحدث الأكبر والأصغر والطهارة الكبرى والصغرى أن عدم سبب الإباحة سبب المنع وعدم سبب المنع سبب الإباحة واطردت القاعدة وهذا الخلاف سبب الوجوب وعلته فإن سبب وجوب إراقة دم المرتد ردته فإذا فقدت الردة كان دمه حراما وسبب وجوب النفقة الزوجية أو القرابة ، فإذا عدم ذلك لا تحرم النفقة بل يندب إليها في الأجانب وسبب وجوب القراءة في الصلاة حضور محلها الذي هو القيام فإذا ركع وسجد وعدم القيام كرهت القراءة فلما كان عدم سبب الوجوب لا يستلزم من ذلك حكما معينا فارق بذلك ما تقدم من علة الإباحة والمنع فهذا هو الفرق بين هاتين القاعدتين .