[ ص: 66 ] المسألة الرابعة )
في وهو ما دل اللفظ عليه التزاما قالت الحنفية لا تؤثر النية فيه تقييدا ولا تخصيصا وقالت بقية الفرق تؤثر النية في المدلول التزاما كالمطابقة من غير فرق ومثلوا هذه المسألة بقول القائل والله لا أكلت فقالت الفرق المالكية والشافعية يجوز أن ينوي مأكولا معينا فلا يحنث بأكل غيره وقالت الحنفية لا يجوز دخول النية ها هنا وإن نوى بطلت نيته وحنث بأي مأكول أكله فإن اللفظ إنما دل مطابقة على نفي الأكل الذي هو المصدر ومن لوازم مصدر الأكل مأكول ما وذلك المأكول لم يلفظ به فلا يجوز دخول النية فيه لأنه مدلول التزامي واحتجوا على ذلك بأمور ( أحدها ) أن الأصل اعتبار اللفظ المنطوق به بحسب الإمكان خالفنا ذلك فيما دل اللفظ عليه مطابقة وبقي فيما عداه على الأصل ووجه المناسبة أن تحكيم النية في اللفظ باعتبار معناه فرع تناول ذلك اللفظ لذلك المعنى والتناول إنما هو محقق في المطابقة والتضمن أما الالتزام فتبع جاء من جهة العقل فتقرر اللفظ فيه ضعيف فتصرف النية فيه [ ص: 67 ] كذلك فلا يترك ما أجمعنا عليه لهذا الضعيف المختلف فيه المواطن التي اختلف العلماء في الاكتفاء فيها بالنية
( وثانيها ) أن الاستقراء دل على أن النية لا تدخل إلا فيما دل اللفظ عليه مطابقة واعتبار النيات في الألفاظ أمر يتبع اللغة ألا ترى أن اللغة لما لم تجوز النية في صرف أسماء الأعداد إلى المجازات امتنع فلا يجوز أن تطلق العشرة وتريد بها التسعة
( وثالثها ) أنه لو صح دخول النية في المدلول الالتزامي لصح المجاز في كل لازم المسمى بالنية والقصد إليه وليس كذلك لأن الأسد يلزمه أوصاف كثيرة من البخر والحمى والوبر وكبر الرأس وغير ذلك ولا يصح التجوز عنه إلا باعتبار الشجاعة خاصة ولا يصح دخول النية في غيرها حتى تصرف للمجاز لأنا نشترط في مثل هذا المجاز وهو مجاز المشابهة أن تكون الصفة التي وقعت فيها المشابهة أظهر صفات المحل المتجوز عنه وحجة المالكية والشافعية من وجوه ( أحدها ) أنا أجمعنا على ما إذا قال والله لا أكلت أكلا أنه يصح أن ينوي بعض المآكل ويخرج البعض بنيته مع أن أكلا مصدر وأجمع النحاة على أن التصريح به بعد الفعل إنما هو للتأكيد نحو ضربت ضربا فإن الفعل دل عليه فذكره بعد ذلك يكون تكرارا لذكره فيكون تأكيدا لأنه حينئذ مذكور مرتين والتأكيد حقيقته تقوية المعنى الأول من غير زيادة وإلا لكان إنشاء لا تأكيدا وإذا لم يكن التأكيد منشئا كانت الأحكام الثابتة معه ثابتة قبله لكن الثابت معه اعتبار النية فالثابت قبله اعتبار النية وهو المطلوب
( وثانيها ) أن النية اعتبرت في المطابقة إجماعا مع قوة المعارض فأولى أن تعتبر مع ضعف المعارض في دلالة الالتزام بطريق الأولى وإنما قلنا إن المطابقة أقوى معارضة للنية لأن المطابقة هي الأصل المقصود بوضع اللغة وغيرها إنما يفيده اللفظ تبعا لها والأصل أقوى من التابع ومع ذلك إذا عارضت النية المطابقة وصرفت اللفظ عن مدلوله المطابقي للمجاز صح إجماعا مع أن اللفظ يمنعها من ذلك ويقتضي مسماه بطريق الحقيقة فقد قدمت النية على اللفظ المطابقي وهو أقوى في المعارضة من دلالة الالتزام فأولى أن تعتبر النية في دلالة الالتزام ويصرف عموم اللازم إلى خصوصه وتقييد مطلقه وجميع ما أجمعنا عليه في المدلول المطابقي بطريق الأولى وهو المطلوب
( وثالثها ) أنا وجدنا الاستثناءات في لسان العرب دخلت على العوارض الخارجة عن المدلول المطابقي واللوازم ولفظ الاستثناء إنما هو فرع عن إرادة المعنى الذي قصد لأجله الاستثناء فإن اللفظ تابع لإرادة المعنى فإنه يقصد به إفهام السامع ما في نفس [ ص: 68 ] المتكلم فمتى دخل الاستثناء في المدلول التزاما دل ذلك على دخول النية قبله في المدلول الالتزامي ، وبيان دخول الاستثناء في المدلول التزاما أو بطريق العرض من وجوه
( أحدها ) قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } هذا استثناء من الأحوال العارضة أو اللازمة لمعنى الإتيان وتقدير الكلام لتأتنني به في كل حالة من الحالات إلا في حال الإحاطة بكم فإني لا ألزمكم الإتيان به فيها لقيام العذر حينئذ
وثانيها قوله تعالى { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين } وفي الآية الأخرى { إلا استمعوه وهم يلعبون } أي لا يأتيهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة من لهوهم وإعراضهم فقد قصد إلى حالة اللهو والإعراض بالإثبات ولغيرها من الأحوال بالنفي والأحوال أمور خارجة عن المدلول المطابقي وإذا كانت خارجة فإن كانت الأحوال اللازمة فقد دخلت النية في المدلول التزاما وإن كانت عارضة فقد دخلت النية في العوارض وإذا دخلت في العوارض دخلت في اللوازم بطريق الأولى فإن العارض أبعد عن مدلول اللفظ مطابقة من اللازم ضرورة فإذا تصرفت النية في البعيد أولى أن تتصرف في القريب لأنه أشبه بالمطابقة المجمع عليها من العارض لبعده عن المطابقة
( وثالثها ) أنه قصد إلى المدلول التزاما من غير استثناء بل بالنية المجردة ودل الدليل الخارجي على ذلك وهو عين صورة النزاع ويدل عليه وجوه
( أحدها ) قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } والمدلول مطابقة في هذه الآية غير مراد فإن الأعيان لا تحرم بل الأفعال المتعلقة بها وهي الأكل والتناول فقد قصدت بالتحريم من غير لفظ يدل على ذلك مقارن بل الأدلة الخارجة أفادتنا ذلك وهذه الأفعال إن كانت لازمة حصل المقصود لوجوه تصرف النية فيها بإضافة التحريم إليها دون غيرها ولا سيما أن النية تعين في كل عين الفعل المناسب لها فتعين في الخمر الشرب وفي الميتة الأكل وكذلك جميع الأعيان الواردة في النصوص وإن كانت هذه الأفعال المقصودة عارضة وقد تصرفت النية فيها فالأولى أن تتصرف في اللازم لأن اللازم أقرب للمطابقة من العارض
( وثانيها ) قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } والمراد الاستمتاع المتعلق بهن دون أعيانهن المذكورة في الآية ووجه التقدير ما تقدم في الخمر والخنزير [ ص: 69 ]
( وثالثها ) قوله تعالى { } قال العلماء التردد على الله تعالى محال غير أنه لما جرت العادة أن كل شخص أنت تعظمه وتهتم به فإنك تتردد في مساءته نحو ولدك وصديقك ، ومن لا تعظمه كالعقرب والحية وعدوك فإنك إذا خطر بقلبك إيلامه ومساءته لا تتردد في ذلك بل تبادر إليه ، فصار التردد لا يقع إلا في موطن التعظيم وعدمه في موطن الحقارة وإن كان التردد في الإحسان انعكس الحال فيحصل في حق الحقير دون العظيم إذا تقرر هذا قال العلماء المتحدثون على هذا الحديث : المراد بذكر التردد في هذا الحديث الدلالة على عظم منزلة المؤمن عند الله تعالى وعبر باللفظ المركب عما يلزمه وهو نفسه ليس مرادا فيصير معنى الحديث : منزلة المؤمن عندي عظيمة وجميع ما وقع في مدلول هذا المركب ليس مرادا فقد قصد إلى لازم اللفظ وأضيف إليه الحكم وهذا بعينه هو تصرف النية فإن النية هي القصد بعينه وإذا صح القصد صحت النية في اللازم وهو المطلوب فهذه وجوه واضحة في دخول النيات والمقاصد في المدلول التزاما في مقتضى اللغة وبها يظهر الجواب عما اعتمدوا عليه أما الأول وهو قولهم نفيناه فيما عدا المطابقة على مقتضى الأصل فجوابه أن ما ذكرناه من الأدلة والاستعمالات دل على مخالفة الأصل وأن العرب أجازت النية في الالتزام كما أجازتها في المطابقة ثم إن الأصل معارض بأن الأصل عدم الحجر علينا . ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يكون إلا ما أريد
وأما الثاني وهو قولهم إن الاستقراء دل على عدم دخول النية في المدلول التزاما فما ذكرناه من النصوص والاستعمالات يبطل استقراءهم والمثبت مقدم على النافي .
وأما الثالث وهو قولهم لو صح دخول النية في المدلول التزاما لصح المجاز في كل شيء هو لازم قلنا وإنه كذلك فإنه يصح عندنا التجوز لكل لازم لأن العلاقة عندنا الملازمة وهي حاصلة بل يصح عندنا المجاز في غير اللازم كالتعبير بلفظ الجزء عن الكل مع أن الكل غير لازم للجزء وأما ما ذكرتموه [ ص: 70 ] من المثال فذلك المنع إنما جاء من خصوص كونه مجاز تشبيه لا من عموم كونه مجازا فإنا نشترط في مجاز التشبيه أظهر صفات المتجوز عنه ولا يصح التشبيه بالمعاني الخفية فهذا بحث خاص بالاستعارة التي هي مجاز تشبيه وما عدا ذلك من أنواع المجاز فهذا الشرط فيها ساقط ولا يلزم من امتناع أمر في الأخص أن يمتنع في الأعم منه فلا يلزم إذا حرم قتل الإنسان أن يحرم قتل مطلق الحيوان ولا من تحريم شرب الخمر أن يحرم مطلق المائع ولا من تحريم لحم الخنزير أن يحرم مطلق اللحم فلا يلزم من امتناع خاص في مجاز التشبيه أن يحصل الامتناع في أصل المجاز بل الذي نعتقده أن التجوز يصح في كل لازم إلا ما تقدم من مجاز التشبيه خاصة فهذا تلخيص هذه المسألة والحجاج فيها .