( الفرق الخامس والثلاثون والمائة بين قاعدة وقاعدة غيرها المساجد الثلاثة يجب المشي إليها والصلاة فيها إذا نذرها ) من المساجد لا يجب المشي إليها إذا نذر الصلاة فيهما
قال رحمه الله في المدونة مالك المدينة أو بيت المقدس أو المشي إليها فلا يأتي إليهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو ما يلازم ذلك وإلا فلا شيء عليه ولو نذر الصلاة في [ ص: 87 ] غيرها من المساجد صلى بموضعه وقاله إذا قال علي أن آتي إلى الشافعي وقال وأحمد بن حنبل اللخمي قال القاضي إسماعيل المسجد الحرام لا يلزمه المشي إذا نذره قال والمشي في ذلك كله أفضل لأن المشي في القرب أفضل وهو قربة قال ومقتضى أصل ناذر الصلاة في أن يأتي المكي مالك المدينة لأنها أفضل فإتيانها من مكة قربة بخلاف الإتيان من المدينة إلى مكة وقدم الشافعي المسجد الحرام عليها قال وأحمد بن حنبل ابن يونس يمشي إلى غير الثلاثة المساجد من المساجد إن كان قريبا كالأميال اليسيرة ماشيا ويصلي فيه قال إذا كان بموضعه مسجد جمعة لزمه المشي إليه وقال ابن حبيب وبه أفتى مالك من ابن عباس بمسجد قباء وهو من المدينة على ثلاثة أميال وفي الجواهر الناذر إن كان بمكة أو المدينة ونذر بيت المقدس يصلي في مسجد موضعه لأنه أفضل وإن كان بالأقصى مضى إليهما ويمشي المكي إلى المدينة والمدني إلى مكة للخروج من الخلاف وأصل الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومسجد إيلياء والمسجد الحرام } فاقتضى ذلك عدم لزوم المشي إلى غيرها فإن لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا وإلا فلا وسر الفرق أن النذر لا يؤثر إلا في مندوب فما لا رجحان في فعله في نظر الشرع لا يؤثر فيه النذر وسائر المساجد مستوية من جهة أنها بيوت القرب والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة فيها فلا يجب الإتيان إلى شيء منها لعدم الرجحان فإن قلت إن المساجد أفضل من غيرها إجماعا . كل ما وجب المشي إليه وجب إعمال الركاب إليه
وبعضها أفضل من بعض إما لكثرة طاعة الله تعالى فيها وإما لقدم هجرته أو لكثرة جماعته أو غير ذلك من [ ص: 88 ] أسباب التفضيل ومقتضى ذلك وجوب الصلاة فيها إذا نذرت لأجل الرجحان في نظر الشرع قلت سؤال جليل والجواب عنه أن القاعدة الشرعية أن الفعل قد يكون راجحا في نفسه ولا يكون ضمه لراجح آخر في نفسه راجحا في نظر الشرع وقد يكون ضمه راجحا فمن الأول الصلاة والحج راجحان في نظر الشرع كل واحد منهما في نفسه وليس ضمهما راجحا في نظر الشرع والصوم والزكاة راجحان منفردين وليس ضمهما راجحا في نظر الشرع بل قد يكون الفعلان راجحين في نظر الشرع وضمهما مرجوح في نظر الشرع كالصوم والوقوف بعرفة والتنفل في المصلى مع صلاة العيد والركوع وقراءة القرآن لقوله عليه السلام { } والدعاء في بعض أجزاء الصلاة كما قبل التشهد ونحوه ومما رجح منفردا ومجتمعا الصوم والاعتكاف والتسبيح والركوع ونحو ذلك وقد تقدم بسط هذه القاعدة فاعتقاد رجحان المساجد على غيرهما أو رجحان بعضها على بعض لا يوجب اعتقاد ضم الصلاة إليها لأن اعتقاد الرجحان الشرعي يتوقف على مدرك شرعي ولم يرد بل ورد الحديث المتقدم بعد ذلك وليس لك أن تقول إن رجحانها إنما ثبت باعتبار الصلاة فيها فإني أمنع ذلك بل ما دل الدليل على رجحانها باعتبار الصلاة إلا باعتبار صلاة الفرض دون النفل من الصلاة لقوله عليه السلام { نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا } مع أن المساجد من حيث هي مساجد مستوية بالنسبة إلى المكتوبة أيضا حتى يرد دليل شرعي يقتضي رجحان بعضها على بعض باعتبار فرض أو نفل فإن الرجحان الشرعي حكم شرعي يتوقف على مدرك شرعي والحديث السابق اقتضى عكس ذلك فلا يجب السعي حينئذ إلى مسجد [ ص: 89 ] غير الثلاثة وإن نذره . خير صلاة أحدكم في بيته إلا المكتوبة
وأما ما وقع من قوله يمشي إلى القريب فمراعاة لضرورة النذر على وجه الندب دون الإلزام وقول يمشي إلى مسجد الجمعة مشكل يتوقف ذلك على دليل يدل عليه لما تقدم من القاعدة وكذلك قول الأصحاب يمشي إلى المسجد القريب استحسان من غير مدرك ظاهر والصواب ما تقدم فإن قلت القاعدة في النذر أنه لا يجزئ فعل الأعلى عن فعل الأدنى إذا نذره فمن نذر أن يتصدق برغيف لا يجزئه أن يتصدق بثوب وإن كان أعظم منه وقعا عند الله تعالى وعند المسلمين ومن نذر أن يصوم يوما لم يجزه أن يصليه بدلا عن الصوم وإن كانت الصلاة أفضل في نظر الشرع ومن نذر أن يحج لم يجزه أن يتصدق بآلاف من الدنانير على الأولياء والضعفاء ولا أن يصلي السنين مع أن الصلاة أفضل من الحج ونظائر ذلك كثيرة . ابن حبيب
وإذا تقررت هذه القاعدة كيف صح في هذا الباب أن ببيت المقدس يصلي بالمدينة أو بمكة إذا كان مقيما بهما ولا يأتي بيت المقدس وغايته أنه ترك المفضول لفعل الفاضل والقاعدة منع ذلك فكيف ساغ ذلك هنا قلت ظاهر كلام الأصحاب أنه يصلي من نذر أن يصلي بالحرمين إذا كان مقيما بهما حالة النذر لأنه حينئذ نذر الخروج وترك الصلاة في [ ص: 90 ] الحرمين حتى يصليها ببيت المقدس فقد نذر المرجوح والنذر لا يؤثر في المرجوح بل في المندوب الراجح أما لو كان بغير المواضع الثلاثة من أقطار الدنيا ونذر المشي إلى البيت المقدس ينبغي أن يتعين عليه أو يقال الصلاة من حيث هي صلاة حقيقة واحدة فالعدول فيها عن الصفة الدنيا إلى الصفة العليا لا يقدح في موجب النذر ألا ترى أنه لو نذر أن يتصدق بثوب خلق أو غليظ وغير ذلك من الصفات التي لا تتضمن مصلحة بل هي مرجوحة في الثياب فتصدق بثوب جديد أو غير ذلك من الثياب الموصوفة بالصفات الجيدة فإنه يجزئه فإن النذر لما ورد على الثوب الخلق ورد على شيئين أحدهما أصل الثوب والآخر صفته فأما التصدق بأصل الثوب فقربة فتجب .
وأما التصدق بوصف الخلق فليس فيه ندب شرعي فلا يؤثر فيه النذر فيجزئ ضده فكذلك ها هنا لما نذر الصلاة ببيت المقدس فقد نذر الصلاة موصوفة بخمسمائة صلاة كما ورد في الحديث أن { بيت المقدس بخمسمائة صلاة } وهذه الخمسمائة هي بعينها في الصلاة في الحرمين مع زيادة خمسمائة أخر لقوله عليه الصلاة والسلام { المسجد الحرام } [ ص: 91 ] فكل ما هو مطلوب للشرع في صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا البيت المقدس هو موجود في الحرمين من أصل الصلاة وزيادة أجرها ولم يفترقا إلا في زيادة خمسمائة أخرى تحصل له في الحرمين وترك هذه الزيادة ليست مقصودة للشارع فلا جرم لم يتعلق بها نذر ويكون وزان ذلك من نذر أن يتصدق بثوب فتصدق بثوبين فإنه يجزئه إجماعا ولا يكون وزانه من نذر أن يصوم فصلى لأن خصوص الصوم من حيث هو صوم مطلوب لصاحب الشرع ولم يحصل هذا الخصوص في الصلاة كما حصل خصوص الخمسمائة في الألف من غير خلل ألبتة [ ص: 92 ] فهذا هو سر الفرق بين قاعدة عدم إجزاء خمسمائة أخرى لقوله الراجح عن المرجوح في العبادات وقاعدة إجزاء الصلاة بالحرمين عن الصلاة ببيت المقدس والصلاة في كل مسجد عن الصلاة في مسجد آخر من مساجد الأقطار فتأمل ذلك
( تنبيه ) مقتضى ما تقرر في النذر لزوم ثلاثة إشكالات على قواعد الفقهاء
( الإشكال الأول ) على ما يقول الفقهاء إن لأنه لازم له قبل النذر ولا في مباح لأن صاحب الشرع لا يلزم أحدا بفعل المباح نذره أم لا والمحرم والمكروه بطريق الأولى وإذا كانت القاعدة أن النذر لا يؤثر إلا في راجح في نظر الشرع أشكل على ذلك إذا نذر أن يتصدق بهذا الشعير ليس له أن يخرج عنه قمحا مع أن هذا الشعير مشتمل على أمرين أحدهما المالية وهي موجودة في القمح والتصدق بها راجح في نظر الشرع والثاني كونه شعيرا وكونه شعيرا لم يؤمر بخصوصه في الصدقة ولا هو راجح في نظر الشرع فكان يلزم أن لا يلزمه خصوص الشعير وكذلك إذا نذر أن يتصدق بهذا الثوب فتصدق بألف دينار لا يجزئه أو نذر أن يصوم لا تجزئه الصلاة مع اشتراكهما في القربة وليس في خصوص الصوم وجه يترجح به على الصلاة حتى يؤثر فيه النذر ويمنع من إقامة الصلاة مقامه وكذلك القول في جميع الأجناس [ ص: 93 ] تتعين من الأموال والعبادات يلزم خصوصها بالنذر وإن لم يكن ذلك الخصوص راجحا في نظر الشرع بل القربة ما اشتمل عليه مما هو مشترك بينه وبين غيره فقد أثر النذر فيما ليس براجح في نظر الشرع النذر لا يؤثر إلا في مندوب ولا تأثير له في واجب
( الإشكال الثاني ) على قاعدة من يقول النقدان لا يتعينان لعدم تعلق القصد بخصوصياتهم ا شرعا وعادة فيلزم هذا القائل أنه إذا نذر أن يتصدق بهذا الدرهم أن يتركه ويخرج غيره أو بهذا الدينار أن يتركه ويخرج غيره مع أن ظاهر كلامهم يقتضي تعيينه بالإخراج وذلك بمقتضى أن الخصوص يتعلق به قصد شرعي وعادي وهو خلاف قاعدتهم في عدم التعيين ويلزم إذا نذر أن يتصدق بهذا الدرهم أو بدراهم لم يعينها أن يخرج عوضها دنانير لأن التقرب في المالية لا في كونها دراهم أو دنانير بل قد يكون أحدهما أنفع للفقير وهو ما لم ينذر لراحته من الصرف في دفع الدراهم عن الدنانير المنذورة
( الإشكال الثالث ) مقتضى ما تقدم [ ص: 94 ] من تقديم المسجد الحرام على المسجد الأقصى لزيادة فضيلته مع تحصيل أصل التقرب أن تكون أجناس المنذورات كلها كذلك يقدم فاضلها على مفضولها ويخرج القمح بدل الشعير فيطلب الفرق .