وإنما قال أجره على بطنه أدبا له لجرأته عليه ، واختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين هل كان حقا بينه لهما حكما أو كان مباحا فأمره به زجرا [ ص: 98 ] على جوابين ، ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد لأنهم في الصدر الأول مع ظهور الدين عليهم بين من يقوده التناصف إلى الحق أو يزجره الوعظ عن الظلم ، وإنما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء ، فإن تجور من جفاة أعرابهم متجور ثناه الوعظ أن يدبر وقاده العنف أن يحسن فاقتصر خلفاء السلف على فصل التشاجر بينهم بالحكم والقضاء تعيينا للحق في جهته لانقيادهم إلى التزامه ، واحتاج رضي الله عنه حين تأخرت إمامته واختلط الناس فيها وتجوروا إلى فصل صرامة في السياسة وزيادة تيقظ في الوصول إلى غوامض الأحكام فكان أول من سلك هذه الطريقة واستقل بها ولم يخرج فيها إلى نظر المظالم المحض لاستغنائه عنه . وقال في المنبرية : صار ثمنها تسعا . وقضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثا . وقضى في ولد تنازعته امرأتان بما أدى إلى فصل القضاء ، ثم انتشر الأمر بعده حتى تجاهر الناس بالظلم والتغالب ولم يكفهم زواجر العظة عن التمانع والتجاذب ، فاحتاجوا في ردع المتغلبين وإنصاف المغلوبين إلى نظر المظالم الذي يمتزج به قوة السلطنة بنصف القضاء ، فكان علي للنظر أول من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة ، فكان إذا وقف منها على مشكل أو احتاج فيها إلى حكم منفذ رده إلى قاضيه عبد الملك بن مروان أبي إدريس الأودي فنفذ فيه أحكامه لرهبة التجارب من في علمه بالحال ووقوفه على السبب ، فكان عبد الملك بن مروان أبو إدريس هو المباشر هو الآمر . ثم زاد من جور الولاة وظلم العتاة ما لم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر ، فكان وعبد الملك رحمه الله عمر بن عبد العزيز فردها وراعى السنن العادلة وأعادها ، ورد مظالم أول من ندب نفسه للنظر في المظالم بني أمية على أهلها حتى قيل له وقد شدد عليهم فيها وأغلظ إنا نخاف عليك من ردها العواقب ، فقال كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وقيته . ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة ، فكان أول من جلس لها المهدي ، ثم الهادي ، ثم الرشيد ، ثم فآخر من جلس لها المأمون المهتدي حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها .
وقد كان ملوك [ ص: 99 ] الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذي لا يعم الصلاح إلا بمراعاته ولا يتم التناصف إلا بمباشرته .
وكانت قريش في الجاهلية حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا حلفا على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم وكان سببه ما حكاه أن رجلا من الزبير بن بكار اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه رجل من بني سهم ، وقيل إنه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه فسأله ماله أو متاعه فامتنع عليه فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته ( من البسيط ) :
يال قصي لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار والنفر وأشعث محرم لم تقض حرمته
بين المقام وبين الحجر والحجر أقائم من بني سهم بذمتهم
أو ذاهب في ضلال مال معتمر
يال قصي كيف هذا في الحرم وحرمة البيت وأحلاف الكرم
أظلم لا يمنع عني من ظلم
إن كان جارك لم تنفعك ذمته وقد شربت بكأس الذل أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صددا لا تلق تأديبهم فحشا ولا باسا
ومن يكن بفناء البيت معتصما يلق ابن حرب ويلق المرء عباسا
قومي قريش بأخلاق مكملة بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا
ساق الحجيج وهذا ناشر فلج والمجد يورث أخماسا وأسداسا
وإني بقصته وما يزيده الإسلام إلا شدة فقال بعض قريش في هذا الحلف ( من البسيط ) :
تيم بن مرة إن سألت وهاشما وزهرة الخير في دار ابن جدعان
متحالفين على الندى ما غردت ورقاء في فنن من جذع كتمان