قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
فيه أربع وثلاثون مسألة :
الأولى : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إنما حرم عليكم الميتة إنما كلمة موضوعة للحصر ، تتضمن
[ ص: 203 ] النفي والإثبات ، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه ، وقد حصرت ها هنا التحريم ، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فأفادت الإباحة على الإطلاق ، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة إنما الحاصرة ، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين ، فلا محرم يخرج عن هذه الآية ، وهي مدنية ، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت
بعرفة :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلى آخرها ، فاستوفى البيان أولا وآخرا ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي . وسيأتي الكلام في تلك في " الأنعام " إن شاء الله تعالى .
الثانية : الميتة نصب ب حرم ، و " ما " كافة . ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي ، منفصلة في الخط ، وترفع الميتة والدم ولحم الخنزير على خبر " إن " وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابن أبي عبلة . وفي حرم ضمير يعود على الذي ، ونظيره قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69إنما صنعوا كيد ساحر . وقرأ
أبو جعفر " حرم " بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها ، إما على ما لم يسم فاعله ، وإما على خبر إن . وقرأ
أبو جعفر بن القعقاع أيضا " الميتة " بالتشديد .
الطبري : وقال جماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف في ميت ، وميت لغتان . وقال
أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه " ميت " بالتخفيف ، دليله قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=30إنك ميت وإنهم ميتون . وقال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت ، إلا ما روى
البزي عن
ابن كثير " وما هو بميت " والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر :
إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد
فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت ، والأول أشهر .
الثالثة : الميتة : ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح ، وما ليس بمأكول فذكاته كموته ، كالسباع وغيرها ، على ما يأتي بيانه هنا وفي " الأنعام " إن شاء الله تعالى .
[ ص: 204 ] الرابعة : هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860727أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال . أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني وكذلك حديث
جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده . خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم مع قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=96أحل لكم صيد البحر ، على ما يأتي بيانه هناك ، إن شاء الله تعالى .
وأكثر أهل العلم على جواز
nindex.php?page=treesubj&link=16891أكل جميع دواب البحر حيها وميتها ، وهو مذهب
مالك . وتوقف أن يجيب في
nindex.php?page=treesubj&link=16896_17062خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيرا قال
ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراما .
الخامسة : وقد اختلف الناس في
nindex.php?page=treesubj&link=21252تخصيص كتاب الله تعالى بالسنة ، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي . وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح
مسلم من حديث
عبد الله بن أبي أوفى قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860728غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل nindex.php?page=treesubj&link=27448_25292الجراد معه . وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه ، وبهذا قال
ابن نافع nindex.php?page=showalam&ids=16991وابن عبد الحكم وأكثر العلماء ، وهو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة وغيرهما . ومنع
مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه ; لأنه من صيد البر ، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله ، فأشبه الغزال . وقال
أشهب : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل ; لأنها حالة قد يعيش بها وينسل . وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في " الأعراف " عند ذكره ، إن شاء الله تعالى .
[ ص: 205 ] السادسة : واختلف العلماء
nindex.php?page=treesubj&link=24777هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات ، واختلف عن
مالك في ذلك أيضا ، فقال مرة : يجوز الانتفاع بها ; لأن
nindex.php?page=hadith&LINKID=860729النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال : ( هلا أخذتم إهابها ) الحديث . وقال مرة : جملتها محرم ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها ، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع ، حتى
nindex.php?page=treesubj&link=24777لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس ،
nindex.php?page=treesubj&link=24777ولا تعلف البهائم النجاسات ،
nindex.php?page=treesubj&link=24777ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع ، وإن أكلتها لم تمنع . ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة والدم ولم يخص وجها من وجه ، ولا يجوز أن يقال : هذا الخطاب مجمل ; لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره ، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى : "
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة " ، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860730لا تنتفعوا من الميتة بشيء . وفي حديث
عبد الله بن عكيم nindex.php?page=hadith&LINKID=860731لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر ، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في " النحل " إن شاء الله تعالى .
السابعة : فأما
nindex.php?page=treesubj&link=16922الناقة إذا نحرت ، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت ، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه ، إلا أن يخرج حيا فيذكى ، ويكون له حكم نفسه ، وذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=16922الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها ، ومما يبين ذلك أنه لو
nindex.php?page=treesubj&link=4475باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز ، كما لو استثنى عضوا منها ، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها ، وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق ، وقد روى
جابر رضي الله عنه أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=860732رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح ، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت ، فقال : إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه . خرجه
أبو داود بمعناه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " المائدة " إن شاء الله تعالى .
[ ص: 206 ] الثامنة : واختلفت الرواية عن
مالك في
nindex.php?page=treesubj&link=24729_24730جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أو لا ، فروي عنه أنه لا يطهر ، وهو ظاهر مذهبه ، وروي عنه أنه يطهر ، لقوله عليه السلام
nindex.php?page=hadith&LINKID=860733أيما إهاب دبغ فقد طهر ، ووجه قوله : لا يطهر ، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا ، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم ، وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه ، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء ; لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة " الفرقان " ،
nindex.php?page=treesubj&link=3والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية ، والله تعالى أعلم .
التاسعة : وأما
nindex.php?page=treesubj&link=26809شعر الميتة وصوفها فطاهر ، لما روي عن
أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860734لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل ; ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت ، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت ، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس ، ولا يلزم على هذا
nindex.php?page=treesubj&link=26406_26981اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة ; لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت ، وكذلك البيضة ، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت . وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة " النحل " إن شاء الله تعالى .
العاشرة :
nindex.php?page=treesubj&link=614وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان : حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر ، وإن ماتت فيه فله حالتان : حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه ، وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها ، فتطرح وما حولها ، وينتفع بما بقي وهو على طهارته ; لما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500051أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت ، فقال عليه السلام : إن كان جامدا فاطرحوها وما [ ص: 207 ] حولها وإن كان مائعا فأريقوه ، واختلف العلماء فيه إذا غسل ، فقيل : لا يطهر بالغسل ; لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات ، وقال
ابن القاسم : يطهر بالغسل ; لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب ، ولا يلزم على هذا الدم ; لأنه نجس بعينه ، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه .
الحادية عشرة : فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع ، لكن لا يبيعه حتى يبين ; لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم . ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته ، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة ، وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال ، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها ، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=860735سئل عن nindex.php?page=treesubj&link=17212_17213ثمن الخمر فقال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر .
الثانية عشرة : واختلف
nindex.php?page=treesubj&link=614إذا وقع في القدر حيوان ، طائر أو غيره [ فمات ] فروى
ابن وهب عن
مالك أنه قال : لا يؤكل ما في القدر ، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه ، وروى
ابن القاسم عنه أنه قال : يغسل اللحم ويراق المرق ، وقد سئل
ابن عباس عن هذه المسألة فقال : يغسل اللحم ويؤكل ، ولا مخالف له في المرق من أصحابه ، ذكره
ابن خويز منداد .
الثالثة عشرة : فأما
nindex.php?page=treesubj&link=26406إنفحة الميتة ولبن الميتة فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ذلك نجس لعموم قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة ، وقال
أبو حنيفة بطهارتهما ، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة ، قال : ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق ، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا . وقال
مالك نحو قول
أبي حنيفة [ ص: 208 ] إن ذلك لا ينجس بالموت ، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل ، وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=26981الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها ; لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها ، وإنما تجمد وتصلب بالهواء .
قال
ابن خويز منداد فإن قيل : فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم ، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة ، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بإنفحة ميتة أو ذكي . قيل له : قدر ما يقع من الإنفحة في اللبن المجبن يسير ،
nindex.php?page=treesubj&link=595واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع . هذا جواب على إحدى الروايتين . وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام ، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم ، بل الجبن ليس من طعام العرب ، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم ، فمن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من إنفحة ذبائحهم .
وقال
أبو عمر : ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من إنفحة الميتة . وفي سنن
ابن ماجه " الجبن والسمن " حدثنا
إسماعيل بن موسى السدي حدثنا
سيف بن هارون عن
سليمان التيمي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12081أبي عثمان النهدي عن
سلمان الفارسي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860736سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء . فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : والدم اتفق العلماء على أن
nindex.php?page=treesubj&link=545الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به . قال
ابن خويز منداد : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى ، ومعفو عما تعم به البلوى ، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه ، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه . وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة والدم وقال في موضع آخر
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا . فحرم
nindex.php?page=treesubj&link=545المسفوح من الدم ، وقد روت
عائشة رضي الله عنها قالت :
كنا نطبخ البرمة على عهد [ ص: 209 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع ، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه ، ألا ترى أن
nindex.php?page=treesubj&link=23988المضطر يأكل الميتة ، وأن
nindex.php?page=treesubj&link=316_2361_27487المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك .
قلت : ذكر الله سبحانه وتعالى الدم ها هنا مطلقا ، وقيده في الأنعام بقوله مسفوحا وحمل العلماء ها هنا المطلق على المقيد إجماعا . فالدم هنا يراد به المسفوح ; لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه ، وفي
nindex.php?page=treesubj&link=545دم الحوت المزايل له اختلاف ، وروي عن
القابسي أنه طاهر ، ويلزم على طهارته أنه غير محرم ، وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي ، قال : لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته .
قلت : وهو مذهب
أبي حنيفة في دم الحوت ، سمعت بعض الحنفية يقول : الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود ، وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : ولحم الخنزير خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها .
السادسة عشرة : أجمعت الأمة على تحريم
nindex.php?page=treesubj&link=33217_27991شحم الخنزير ، وقد استدل
مالك وأصحابه على أن من
nindex.php?page=treesubj&link=16535حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم . فإن
nindex.php?page=treesubj&link=16535حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم ، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم ، وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه ; لأنه دخل تحت اسم اللحم ، وحرم الله تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله : حرمنا عليهم شحومهما فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم ، فلهذا فرق
مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم ، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث والله تعالى أعلم ، ولا يحنث في قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما ، وقال
أحمد : إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم .
[ ص: 210 ] السابعة عشرة : لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به ، وقد
روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن nindex.php?page=treesubj&link=24777_517الخرازة بشعر الخنزير ، فقال : لا بأس بذلك ذكره
ابن خويز منداد ، قال : ولأن الخرازة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ، وبعده موجودة ظاهرة ، لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده . وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه .
الثامنة عشرة : لا خلاف في تحريم
nindex.php?page=treesubj&link=33217خنزير البر كما ذكرنا ، وفي
nindex.php?page=treesubj&link=17062خنزير الماء خلاف ، وأبى
مالك أن يجيب فيه بشيء ، وقال : أنتم تقولون خنزيرا وقد تقدم ، وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى .
التاسعة عشرة : ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية . وحكى
ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين ; لأنه كذلك ينظر ، واللفظة على هذا ثلاثية ، وفي الصحاح : وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها . رجل أخزر بين الخزر ، ويقال : هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها ، وجمع الخنزير خنازير . والخنازير أيضا علة معروفة ، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة .
الموفية عشرين : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173وما أهل به لغير الله أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وهي
nindex.php?page=treesubj&link=16973ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل . فالوثني يذبح للوثن ، والمجوسي للنار ، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه ، ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل ، ولا تؤكل ذبيحتهما عند
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه ، وأجازهما
ابن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره ، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في سورة " المائدة " ، والإهلال : رفع الصوت ، يقال : أهل بكذا ، أي رفع صوته . قال
ابن أحمر يصف فلاة :
يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
وقال
النابغة :
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
ومنه إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته ، وقال
ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، لا ما ذكر عليه اسم
المسيح ، على ما يأتي بيانه في سورة " المائدة "
[ ص: 211 ] إن شاء الله تعالى ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم ، ألا ترى أن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها
غالب أبو الفرزدق فقال : إنها مما أهل لغير الله به ، فتركها الناس . قال
ابن عطية : ورأيت في أخبار
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن
nindex.php?page=treesubj&link=16989امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا ، فقال
الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم .
قلت : ومن هذا المعنى ما رويناه عن
يحيى بن يحيى التميمي شيخ
مسلم قال : أخبرنا
جرير nindex.php?page=hadith&LINKID=860738عن قابوس قال : أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه ، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدوم عليها . قالت : كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود ، فأما ما لم يدع قط ، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا ، ركعتين قبل صلاة الغداة . قالت امرأة عند ذلك من الناس : يا أم المؤمنين ، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه ، أفنأكل منه شيئا ؟ قالت : أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : فمن اضطر قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين ، وفيه إضمار ، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها ، فهو افتعل من الضرورة ، وقرأ
ابن محيصن " فمن اطر " بإدغام الضاد في الطاء ،
وأبو السمال " فمن اضطر " بكسر الطاء ، وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء .
الثانية والعشرون : الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة ، والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك ، وهو الصحيح ، وقيل : معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات . قال
مجاهد : يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى ، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه .
وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا ، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=16907الشبع من الميتة إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا ، كالتمر المعلق وحريسة الجبل ، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى ، وهذا مما لا اختلاف فيه ، لحديث
أبي [ ص: 212 ] هريرة رضي الله عنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860739بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه فقال : إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد الله أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا قالوا لا ، فقال : إن هذه كذلك . قلنا : أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ فقال : كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل . خرجه
ابن ماجه رحمه الله ، وقال : هذا الأصل عندي ، وذكره
ابن المنذر قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860740قلنا يا رسول الله ، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه ؟ قال : يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل . قال
ابن المنذر : وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال . قال
أبو عمر : وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم ، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية ، وكان للممنوع منه ما له من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته ، وإن أتى ذلك على نفسه ، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير ، فحينئذ يتعين عليه الفرض ، فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية ، والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء . إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه ، فأوجبها موجبون ، وأباها آخرون ، وفي مذهبنا القولان جميعا ، ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة .
الثالثة والعشرون : خرج
ابن ماجه أنبأنا
أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا
شبابة ( ح ) وحدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا
شعبة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11937أبي بشر جعفر بن إياس قال : سمعت
عباد بن شرحبيل - رجلا من
بني غبر - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860741أصابنا عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي ، فجاء [ ص: 213 ] صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق .
قلت : هذا حديث صحيح اتفق على رجاله
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم ، إلا
ابن أبي شيبة فإنه
لمسلم وحده
وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم شيئا ، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر
أبو عمر رحمه الله ، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة . وقد روى
أبو داود عن
الحسن عن
سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860742إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل . وذكر
الترمذي عن
يحيى بن سليم عن
عبيد الله عن
نافع عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860743من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة . قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث
يحيى بن سليم وذكر من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
nindex.php?page=hadith&LINKID=860744أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق ، فقال : من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه . قال فيه : حديث حسن . وفي
[ ص: 214 ] حديث
عمر رضي الله عنه :
إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا . قال
أبو عبيد قال
أبو عمر : وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء ، فإن حملته بين يديك فهو ثبان ، يقال : قد تثبنت ثبانا ، فإن حملته على ظهرك فهو الحال ، يقال منه : قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك ، فإن جعلته في حضنك فهو خبنة ، ومنه حديث
عمرو بن شعيب المرفوع
nindex.php?page=hadith&LINKID=860745ولا يتخذ خبنة . يقال منه : خبنت أخبن خبنا . قال
أبو عبيد : وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته .
قلت : لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه ، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام ، أو كما هو الآن في بعض البلدان ، فذلك جائز ، ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة ، كما تقدم والله أعلم .
وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات ، فاختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما : أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع ، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وإذا وجد عنها غنى طرحها . قال معناه
مالك في موطئه ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وكثير من العلماء ، والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده ، وحديث العنبر نص في ذلك ، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد ، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم ، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر ، فقال
أبو عبيدة أميرهم : ميتة . ثم قال : لا ، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا . قال : فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ، الحديث ، فأكلوا وشبعوا - رضوان الله عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى
المدينة ، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حلال وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860746هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ، وقالت طائفة .
nindex.php?page=treesubj&link=16907يأكل بقدر سد الرمق . وبه قال
ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا : المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه ، والمسافر يتضلع ويتزود : فإذا وجد غنى عنها طرحها ، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=33558الميتة لا يجوز بيعها .
الرابعة والعشرون : فإن
nindex.php?page=treesubj&link=17191اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف ، وإن كان
[ ص: 215 ] بجوع أو عطش فلا يشرب ، وبه قال
مالك في العتبية قال : ولا يزيده الخمر إلا عطشا . وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا ، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13658الأبهري : إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها ; لأن الله تعالى قال في الخنزير فإنه رجس ثم أباحه للضرورة ، وقال تعالى في الخمر إنها رجس فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس ، ولا بد أن تروي ولو ساعة ، وترد الجوع ولو مدة .
الخامسة والعشرون : روى
أصبغ عن
ابن القاسم أنه قال : يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر ، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله
ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر ; لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ . نص عليه أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
السادسة والعشرون :
nindex.php?page=treesubj&link=17192فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا ، فقيل : لا ، مخافة أن يدعي ذلك ، وأجاز ذلك
ابن حبيب ; لأنها حالة ضرورة .
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : " أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى ، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها ، فيصدق إذا ظهر ذلك ، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا ، ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة ; لأنها حلال في حال ، والخنزير وابن آدم لا يحل بحال ، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل ، كما لو
nindex.php?page=treesubj&link=29450أكره أن يطأ أخته أو أجنبية ، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال ، وهذا هو الضابط لهذه الأحكام ، ولا يأكل ابن آدم ولو مات ، قاله علماؤنا ، وبه قال
أحمد وداود . احتج
أحمد بقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860747كسر عظم الميت ككسره حيا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يأكل لحم ابن آدم ، ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم ، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير ، فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه ، وشنع
داود على
المزني بأن قال : قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه
ابن شريح بأن قال : فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه ، والله أعلم .
[ ص: 216 ] السابعة والعشرون : سئل
مالك عن
nindex.php?page=treesubj&link=23988المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما ، فقال : إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله ، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا ، وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى ، وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي ، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة .
الثامنة والعشرون : روى
أبو داود قال حدثنا
موسى بن إسماعيل قال حدثنا
حماد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16052سماك بن حرب عن
nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة nindex.php?page=hadith&LINKID=860748أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال رجل : إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت ، فقالت امرأته : انحرها ، فأبى فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله ، فقال : هل عندك غنى يغنيك قال لا ، قال : فكلوها قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها فقال : استحييت منك . قال
ابن خويز منداد : في هذا الحديث دليلان : أحدهما : أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف ، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه ، والثاني : يأكل ويشبع ويدخر ويتزود ; لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع . قال
أبو داود : وحدثنا
هارون بن عبد الله قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12180الفضل بن دكين قال أنبأنا
عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860749سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا الميتة ؟ قال : ما طعامكم قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية قال : ذاك وأبي الجوع . قال : فأحل لهم الميتة على هذه الحال . قال
أبو داود : الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : الغبوق العشاء ، والصبوح الغداء ، والقدح من اللبن بالغداة ، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس ، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام ، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة ، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت . وإلى هذا ذهب
مالك وهو أحد قولي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . قال
ابن خويز منداد : إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا ، وقال
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في القول الآخر : لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه ، وإليه ذهب
المزني . قالوا : لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا ، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها ، وروي
[ ص: 217 ] نحوه عن
الحسن . وقال
قتادة : لا يتضلع منها بشيء ، وقال
مقاتل بن حيان : لا يزداد على ثلاث لقم ، والصحيح خلاف هذا ، كما تقدم .
التاسعة والعشرون : وأما
nindex.php?page=treesubj&link=17416التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة ، فإن تغيرت بالإحراق فقال
ابن حبيب : يجوز التداوي بها والصلاة ، وخففه
ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات ، وفي العتبية من رواية
مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله . وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال
سحنون : لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير ; لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة ، ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل ، وكذلك الخمر لا يتداوى بها ، قاله
مالك ، وهو ظاهر مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وهو اختيار
ابن أبي هريرة من أصحابه ، وقال
أبو حنيفة : يجوز شربها للتداوي دون العطش ، وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي الطبري من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وهو قول
الثوري ، وقال بعض البغداديين من الشافعية : يجوز شربها للعطش دون التداوي ، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي ، وقيل : يجوز شربها للأمرين جميعا ، ومنع بعض أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة ، لحديث العرنيين ، ومنع بعضهم التداوي بكل محرم ، لقوله عليه السلام :
إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ، ولقوله عليه السلام
لطارق بن سويد وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=860751سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال ، إنما أصنعها للدواء ، فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء . رواه
مسلم في الصحيح ، وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار ، فإنه يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=17420التداوي بالسم ولا يجوز شربه ، والله أعلم .
الموفية ثلاثين : غير باغ غير نصب على الحال ، وقيل : على
[ ص: 218 ] الاستثناء ، وإذا رأيت غير يصلح في موضعه " في " فهي حال ، وإذا صلح موضعها " إلا " فهي استثناء ، فقس عليه . وباغ أصله باغي ، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن ، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها ، والمعنى فيما قال
قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة غير باغ في أكله فوق حاجته ، ولا عاد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا ، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع ، وقال
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير وغيرهما : المعنى غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، وهذا صحيح ، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=33ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد . والعرب تقول : خرج الرجل في بغاء إبل له ، أي في طلبها ، ومنه قول الشاعر :
إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم
الحادية والثلاثون : قوله تعالى : ولا عاد أصل عاد عائد ، فهو من المقلوب ، كشاكي السلاح وهار ولاث ، والأصل شائك وهائر ولائث ، من لثت العمامة ، فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا ، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم .
الثانية والثلاثون : واختلف العلماء
nindex.php?page=treesubj&link=16905_26850إذا اقترن بضرورته معصية بقطع طريق وإخافة سبيل ، فحظرها عليه
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته ; لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا ، والعاصي لا يحل أن يعان ، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل . وأباحها له
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في القول الآخر له ، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية ، وما أظن أحدا يقوله ، فإن قاله فهو مخطئ قطعا .
قلت : الصحيح خلاف هذا ، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29ولا تقتلوا أنفسكم وهذا عام ، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان ، وقد قال
مسروق : من
nindex.php?page=treesubj&link=16905اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار ، إلا أن يعفو الله عنه . قال
أبو الحسن الطبري المعروف بإلكيا : وليس
[ ص: 219 ] nindex.php?page=treesubj&link=16905أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا ، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا ، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا ، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء . قال : وهو الصحيح عندنا .
قلت : واختلفت الروايات عن
مالك في ذلك ، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=11927الباجي في المنتقى : أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر وقال
ابن خويز منداد : فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء ; لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر ، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما ، وليس كذلك الفطر والقصر ; لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر ، فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه ، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر ، ولذلك قلنا : إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية ; لأن التيمم في الحضر والسفر سواء . وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها ، وفي تركه الأكل تلف نفسه ، وتلك أكبر المعاصي ، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة . أيجوز أن يقال له : ارتكبت معصية فارتكب أخرى ؟ أيجوز أن يقال لشارب الخمر : ازن ؟ وللزاني : اكفر ؟ أو يقال لهما : ضيعا الصلاة ؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له ، ولم يذكر خلافا عن
مالك ولا عن أحد من أصحابه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11927الباجي : " وروى
زياد بن عبد الرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة ، ويفطر في رمضان ، فسوى بين ذلك كله ، وهو قول
أبي حنيفة ، ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل ، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب ، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة ، بل يلزمه الإتيان بها ، فكذلك ما ذكرناه . وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها ، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه . قال
ابن حبيب : وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته ، وتعلق
ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فمن اضطر غير باغ ولا عاد فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا ، والمسافر على وجه الحرابة أو القطع ، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد ، فلم توجد فيه شروط الإباحة ، والله أعلم .
قلت : هذا استدلال بمفهوم الخطاب ، وهو مختلف فيه بين الأصوليين ، ومنظوم الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه ، وغيره مسكوت عنه ، والأصل عموم الخطاب ، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل .
[ ص: 220 ] الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : فإن الله غفور رحيم أي يغفر المعاصي ، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه ، ومن رحمته أنه رخص .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
فِيهِ أَرْبَعُ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً :
الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ إِنَّمَا كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ ، تَتَضَمَّنُ
[ ص: 203 ] النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ ، فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ ، وَقَدْ حَصَرَتْ هَا هُنَا التَّحْرِيمَ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عُقَيْبَ التَّحْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَفَادَتِ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةٍ إِنَّمَا الْحَاصِرَةُ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابُ لِلْقِسْمَيْنِ ، فَلَا مُحَرَّمٌ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ ، وَأَكَّدَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ
بِعَرَفَةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَى آخِرِهَا ، فَاسْتَوْفَى الْبَيَانُ أَوَّلًا وَآخِرًا ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تِلْكَ فِي " الْأَنْعَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الثَّانِيَةُ : الْمَيْتَةُ نُصِبَ بِ حَرَّمَ ، وَ " مَا " كَافَّةٌ . وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي ، مُنْفَصِلَةً فِي الْخَطِّ ، وَتُرْفَعُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ عَلَى خَبَرِ " إِنَّ " وَهِيَ قِرَاءَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ . وَفِي حَرَّمَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الَّذِي ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=69إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ . وَقَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ " حُرِّمَ " بِضَمِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَرَفْعِ الْأَسْمَاءِ بَعْدَهَا ، إِمَّا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ، وَإِمَّا عَلَى خَبَرٍ إِنَّ . وَقَرَأَ
أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَيْضًا " الْمَيِّتَةَ " بِالتَّشْدِيدِ .
الطَّبَرِيُّ : وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ : التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فِي مَيْتٍ ، وَمَيِّتٍ لُغَتَانِ . وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ : مَا قَدْ مَاتَ فَيُقَالَانِ فِيهِ ، وَمَا لَمْ يَمُتْ بَعْدُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ " مَيْتٌ " بِالتَّخْفِيفِ ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=30إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ . وَقَالَ الشَّاعِرُ :
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ بِتَخْفِيفٍ مَا لَمْ يَمُتْ ، إِلَّا مَا رَوَى
الْبَزِّيُّ عَنِ
ابْنِ كَثِيرٍ " وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ " وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ التَّثْقِيلُ ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ :
إِذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمِ فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ
فَلَا أَبْلَغَ فِي الْهِجَاءِ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَيِّتَ حَقِيقَةً ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ .
الثَّالِثَةُ : الْمَيْتَةُ : مَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ مِمَّا يُذْبَحُ ، وَمَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ فَذَكَاتُهُ كَمَوْتِهِ ، كَالسِّبَاعِ وَغَيْرِهَا ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَا وَفِي " الْأَنْعَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
[ ص: 204 ] الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860727أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَدَمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ . أَخْرَجَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ
جَابِرٍ فِي الْعَنْبَرِ يُخَصَّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ . خَرَّجَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=96أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=16891أَكْلِ جَمِيعِ دَوَابِّ الْبَحْرِ حَيِّهَا وَمَيِّتِهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ . وَتَوَقَّفَ أَنْ يُجِيبَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=16896_17062خِنْزِيرِ الْمَاءِ وَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : وَأَنَا أَتَّقِيهِ وَلَا أَرَاهُ حَرَامًا .
الْخَامِسَةُ : وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=21252تَخْصِيصِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسُّنَّةِ ، وَمَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا بِمَا فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860728غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ nindex.php?page=treesubj&link=27448_25292الْجَرَادَ مَعَهُ . وَظَاهِرُهُ أَكْلُهُ كَيْفَ مَا مَاتَ بِعِلَاجٍ أَوْ حَتْفَ أَنْفِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ
ابْنُ نَافِعٍ nindex.php?page=showalam&ids=16991وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=11990وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا . وَمَنَعَ
مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَكْلِهِ إِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يُجْزِئُهُ إِذَا قَتَلَهُ ، فَأَشْبَهَ الْغَزَالَ . وَقَالَ
أَشْهَبُ : إِنْ مَاتَ مِنْ قَطْعِ رِجْلٍ أَوْ جَنَاحٍ لَمْ يُؤْكَلْ ; لِأَنَّهَا حَالَةٌ قَدْ يَعِيشُ بِهَا وَيَنْسِلُ . وَسَيَأْتِي لِحُكْمِ الْجَرَادِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي " الْأَعْرَافِ " عِنْدَ ذِكْرِهِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
[ ص: 205 ] السَّادِسَةُ : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
nindex.php?page=treesubj&link=24777هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ ، وَاخْتَلَفَ عَنْ
مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، فَقَالَ مَرَّةً : يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا ; لِأَنَّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860729النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى شَاةِ مَيْمُونَةٍ فَقَالَ : ( هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا ) الْحَدِيثَ . وَقَالَ مَرَّةً : جُمْلَتُهَا مُحَرَّمٌ ، فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ ، حَتَّى
nindex.php?page=treesubj&link=24777لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْقَى الزَّرْعُ وَلَا الْحَيَوَانُ الْمَاءَ النَّجِسَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24777وَلَا تُعْلَفُ الْبَهَائِمُ النَّجَاسَاتِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24777وَلَا تُطْعَمُ الْمَيْتَةَ الْكِلَابُ وَالسِّبَاعُ ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا لَمْ تُمْنَعْ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَمْ يَخُصَّ وَجْهًا مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْخِطَابُ مُجْمَلٌ ; لِأَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْ ظَاهِرِهِ ، وَقَدْ فَهِمَتِ الْعَرَبُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : "
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ " ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860730لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ . وَفِي حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٌ nindex.php?page=hadith&LINKID=860731لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ . وَهَذَا آخِرُ مَا وَرَدَ بِهِ كِتَابُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي " النَّحْلِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
السَّابِعَةُ : فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=16922النَّاقَةُ إِذَا نُحِرَتْ ، أَوِ الْبَقَرَةُ أَوِ الشَّاةُ إِذَا ذُبِحَتْ ، وَكَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ فَجَائِزٌ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ لَهُ فِي نَفْسِهِ ، إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذَكَّى ، وَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=16922الْجَنِينَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ الذَّبْحِ مَيِّتًا جَرَى مَجْرَى الْعُضْوِ مِنْ أَعْضَائِهَا ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=4475بَاعَ الشَّاةَ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى عُضْوًا مِنْهَا ، وَكَانَ مَا فِي بَطْنِهَا تَابِعًا لَهَا كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوقِعَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا عِتْقًا مُبْتَدَأً ، وَلَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا لَمْ يَتْبَعْهَا فِي بَيْعٍ وَلَا عِتْقٍ ، وَقَدْ رَوَى
جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860732رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ تُذْبَحُ ، وَالنَّاقَةِ تُنْحَرُ فَيَكُونُ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ ، فَقَالَ : إِنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ لِأَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ . خَرَّجَهُ
أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ نَصٌّ لَا يُحْتَمَلُ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
[ ص: 206 ] الثَّامِنَةُ : وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ
مَالِكٍ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=24729_24730جِلْدِ الْمَيْتَةِ هَلْ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَوْ لَا ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْهُرُ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860733أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ : لَا يَطْهُرُ ، بِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ لَوْ أُخِذَ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ نَجِسًا ، فَوَجَبَ أَلَّا يُطَهِّرَهُ الدِّبَاغُ قِيَاسًا عَلَى اللَّحْمِ ، وَتُحْمَلُ الْأَخْبَارُ بِالطَّهَارَةِ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ يُزِيلُ الْأَوْسَاخَ عَنِ الْجِلْدِ حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَفِي الْجُلُوسِ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْمَاءِ بِأَنْ يُجْعَلَ سِقَاءً ; لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهُ وَصْفٌ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ حُكْمِهِ فِي سُورَةِ " الْفُرْقَانِ " ،
nindex.php?page=treesubj&link=3وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ مُتَوَجِّهَةٌ نَحْوَ إِزَالَةِ الْأَوْسَاخِ كَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
التَّاسِعَةُ : وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=26809شَعْرُ الْمَيْتَةِ وَصُوفُهَا فَطَاهِرٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860734لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ ; وَلِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا لَوْ أُخِذَ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، إِلَّا أَنَّ اللَّحْمَ لَمَّا كَانَ نَجِسًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الصُّوفُ خِلَافَهُ فِي حَالِ الْمَوْتِ كَمَا كَانَ خِلَافَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ اسْتِدْلَالًا بِالْعَكْسِ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=26406_26981اللَّبَنُ وَالْبَيْضَةُ مِنَ الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ ; لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضَةُ ، وَلَكِنَّهُمَا حَصَلَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَتَنَجَّسَا بِمُجَاوَرَةِ الْوِعَاءِ لَا أَنَّهُمَا نُجِّسَا بِالْمَوْتِ . وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِمَا مِنَ الْخِلَافِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْعَاشِرَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=614وَأَمَّا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَلَهُ حَالَتَانِ : حَالَةٌ تَكُونُ إِنْ أُخْرِجَتِ الْفَأْرَةُ حَيَّةً فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهِ فَلَهُ حَالَتَانِ : حَالَةٌ يَكُونُ مَائِعًا فَإِنَّهُ يَنْجُسُ جَمِيعُهُ ، وَحَالَةٌ يَكُونُ جَامِدًا فَإِنَّهُ يَنْجُسُ مَا جَاوَرَهَا ، فَتُطْرَحُ وَمَا حَوْلَهَا ، وَيُنْتَفَعُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ ; لِمَا رُوِيَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500051أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَتَمُوتُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحُوهَا وَمَا [ ص: 207 ] حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ إِذَا غُسِلَ ، فَقِيلَ : لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ; لِأَنَّهُ مَائِعٌ نُجَسٌ فَأَشْبَهَ الدَّمَ وَالْخَمْرَ وَالْبَوْلَ وَسَائِرَ النَّجَاسَاتِ ، وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ; لِأَنَّهُ جِسْمٌ تَنَجَّسَ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الدَّمَ ; لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِعَيْنِهِ ، وَلَا الْخَمْرَ وَالْبَوْلَ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَسْتَهْلِكُهُمَا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى فِي الطَّهَارَةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ ، لَكِنْ لَا يَبِيعُهُ حَتَّى يُبَيِّنَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ النَّاسِ تَأْبَاهُ نُفُوسُهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَنَجَاسَتَهُ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُبَيِّنَ الْعَيْبَ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعِيبَةِ ، وَأَمَّا قَبْلَ الْغَسْلِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ ، لِأَنَّ النَّجَاسَاتِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ نَجَسٌ فَأَشْبَهَ الْخَمْرَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860735سُئِلَ عَنْ nindex.php?page=treesubj&link=17212_17213ثَمَنِ الْخَمْرِ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَأَنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ وَهَذَا الْمَائِعُ مُحَرَّمٌ لِنَجَاسَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ ثَمَنُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : وَاخْتُلِفَ
nindex.php?page=treesubj&link=614إِذَا وَقَعَ فِي الْقِدْرِ حَيَوَانٌ ، طَائِرٌ أَوْ غَيْرُهُ [ فَمَاتَ ] فَرَوَى
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُؤْكَلُ مَا فِي الْقِدْرِ ، وَقَدْ تَنَجَّسَ بِمُخَالَطَةِ الْمَيْتَةِ إِيَّاهُ ، وَرَوَى
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُغْسَلُ اللَّحْمُ وَيُرَاقُ الْمَرَقُ ، وَقَدْ سُئِلَ
ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : يُغْسَلُ اللَّحْمُ وَيُؤْكَلُ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الْمَرَقِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، ذَكَرَهُ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ .
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=26406إِنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : ذَلِكَ نَجَسٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ بِطَهَارَتِهِمَا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِمَوْضِعِ الْخِلْقَةِ أَثَرًا فِي تَنَجُّسٍ مَا جَاوَرَهُ مِمَّا حَدَثَ فِيهِ خِلْقَةٍ ، قَالَ : وَلِذَلِكَ يُؤْكَلُ اللَّحْمُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُرُوقِ ، مَعَ الْقَطْعِ بِمُجَاوَرَةِ الدَّمِ لِدَوَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ وَلَا غَسْلٍ إِجْمَاعًا . وَقَالَ
مَالِكٌ نَحْوَ قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ [ ص: 208 ] إِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ، وَلَكِنْ يَنْجُسُ بِمُجَاوَرَةِ الْوِعَاءِ النَّجِسِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْغَسْلُ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=26981الدَّجَاجَةُ تَخْرُجُ مِنْهَا الْبَيْضَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا ; لِأَنَّ الْبَيْضَةَ لَيِّنَةٌ فِي حُكْمِ الْمَائِعِ قَبْلَ خُرُوجِهَا ، وَإِنَّمَا تَجْمُدُ وَتَصْلُبُ بِالْهَوَاءِ .
قَالَ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْجُبْنَ وَكَانَ مَجْلُوبًا إِلَيْهِمْ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَبَائِحَ الْعَجَمِ وَهُمْ مَجُوسٌ مَيْتَةٌ ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِأَنْ يَكُونَ مُجَمَّدًا بِإِنْفَحَةِ مَيْتَةٍ أَوْ ذُكِّيَ . قِيلَ لَهُ : قَدْرُ مَا يَقَعُ مِنَ الْإِنْفَحَةِ فِي اللَّبَنِ الْمُجَبَّنِ يَسِيرٌ ،
nindex.php?page=treesubj&link=595وَالْيَسِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِذَا خَالَطَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَائِعِ . هَذَا جَوَابٌ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَكَلَتِ الْجُبْنَ الْمَحْمُولَ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ ، بَلِ الْجُبْنُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِ الْعَرَبِ ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ بِالْفُتُوحِ صَارَتِ الذَّبَائِحُ لَهُمْ ، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ أَكَلَتْ جُبْنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ وَمَعْمُولًا مِنْ إِنْفَحَةِ ذَبَائِحِهِمْ .
وَقَالَ
أَبُو عُمَرَ : وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ طَعَامِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسِ وَسَائِرِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَكَاةٍ إِلَّا الْجُبْنَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ . وَفِي سُنَنِ
ابْنِ مَاجَهْ " الْجُبْنُ وَالسَّمْنُ " حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السُّدِّيُّ حَدَّثَنَا
سَيْفُ بْنُ هَارُونَ عَنْ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12081أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ
سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860736سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ . فَقَالَ : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ .
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالدَّمَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=545الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ . قَالَ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ : وَأَمَّا الدَّمُ فَمُحَرَّمٌ مَا لَمْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَمَعْفُوٌّ عَمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَالَّذِي تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى هُوَ الدَّمُ فِي اللَّحْمِ وَعُرُوقُهُ ، وَيَسِيرُهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ يُصَلَّى فِيهِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا . فَحَرَّمَ
nindex.php?page=treesubj&link=545الْمَسْفُوحَ مِنَ الدَّمِ ، وَقَدْ رَوَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ [ ص: 209 ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ مِنَ الدَّمِ فَنَأْكُلُ وَلَا نُنْكِرُهُ لِأَنَّ التَّحَفُّظَ مِنْ هَذَا إِصْرٌ وَفِيهِ مَشَقَّةٌ ، وَالْإِصْرُ وَالْمَشَقَّةُ فِي الدِّينِ مَوْضُوعٌ ، وَهَذَا أَصْلُ فِي الشَّرْعِ ، أَنَّ كُلَّمَا حَرَجَتِ الْأُمَّةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَثَقُلَ عَلَيْهَا سَقَطَتِ الْعِبَادَةُ عَنْهَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=23988الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=316_2361_27487الْمَرِيضَ يُفْطِرُ وَيَتَيَمَّمُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ .
قُلْتُ : ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدَّمَ هَا هُنَا مُطْلَقًا ، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ مَسْفُوحًا وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ هَا هُنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِجْمَاعًا . فَالدَّمُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْمَسْفُوحَ ; لِأَنَّ مَا خَالَطَ اللَّحْمَ فَغَيْرُ مُحَرَّمٍ بِإِجْمَاعٍ ، وَكَذَلِكَ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَفِي
nindex.php?page=treesubj&link=545دَمِ الْحُوتِ الْمُزَايِلُ لَهُ اخْتِلَافٌ ، وَرُوِيَ عَنِ
الْقَابِسِيِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَيَلْزَمُ عَلَى طَهَارَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنِ الْعَرَبِيِّ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَمُ السَّمَكِ نَجِسًا لَشُرِعَتْ ذَكَاتُهُ .
قُلْتُ : وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ فِي دَمِ الْحُوتِ ، سَمِعْتُ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ أَنَّهُ إِذَا يَبِسَ ابْيَضَّ بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَإِنَّهُ يَسْوَدُّ ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ .
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ اللَّحْمِ مِنَ الْخِنْزِيرِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ ذُكِّيَ أَوْ لَمْ يُذَكَّ ، وَلِيَعُمَّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ وَغَيْرِهَا .
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=33217_27991شَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ
مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=16535حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللَّحْمِ . فَإِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=16535حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَعَ الشَّحْمِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ ، فَقَدْ دَخَلَ الشَّحْمُ فِي اسْمِ اللَّحْمِ وَلَا يَدْخُلُ اللَّحْمُ فِي اسْمِ الشَّحْمِ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَنَابَ ذِكْرُ لَحْمِهِ عَنْ شَحْمِهِ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ اسْمِ اللَّحْمِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الشُّحُومَ بِقَوْلِهِ : حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا فَلَمْ يَقَعْ بِهَذَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ اللَّحْمِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي اسْمِ الشَّحْمِ ، فَلِهَذَا فَرَّقَ
مَالِكٌ بَيْنَ الْحَالِفِ فِي الشَّحْمِ وَالْحَالِفِ فِي اللَّحْمِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ فِي اللَّحْمِ دُونَ الشَّحْمِ فَلَا يَحْنَثُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=11956وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا ، وَقَالَ
أَحْمَدُ : إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ الشَّحْمَ لَا بَأْسَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اجْتِنَابَ الدَّسَمِ .
[ ص: 210 ] السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَا خِلَافَ أَنَّ جُمْلَةَ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمَةٌ إِلَّا الشَّعْرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْخِرَازَةُ بِهِ ، وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ nindex.php?page=treesubj&link=24777_517الْخِرَازَةِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ذَكَرَهُ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْخِرَازَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ، وَبَعْدَهُ مَوْجُودَةٌ ظَاهِرَةٌ ، لَا نَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَهَا وَلَا أَحَدَ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ . وَمَا أَجَازَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَابْتِدَاءِ الشَّرْعِ مِنْهُ .
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=33217خِنْزِيرِ الْبَرِّ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَفِي
nindex.php?page=treesubj&link=17062خِنْزِيرِ الْمَاءِ خِلَافٌ ، وَأَبَى
مَالِكٌ أَنْ يُجِيبَ فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي " الْمَائِدَةِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : ذَهَبَ أَكْثَرُ اللُّغَوِيِّينَ إِلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْخِنْزِيرِ رُبَاعِيَّةٌ . وَحَكَى
ابْنُ سِيدَهْ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ خَزَرِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْظُرُ ، وَاللَّفْظَةُ عَلَى هَذَا ثُلَاثِيَّةٌ ، وَفِي الصِّحَاحِ : وَتَخَازَرَ الرَّجُلُ إِذَا ضَيَّقَ جَفْنَهُ لِيُحَدِّدِ النَّظَرَ ، وَالْخَزَرُ : ضِيقُ الْعَيْنِ وَصِغَرُهَا . رَجُلٌ أَخْزَرُ بَيِّنُ الْخَزَرِ ، وَيُقَالُ : هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ بِمُؤَخَّرِهَا ، وَجَمْعُ الْخِنْزِيرِ خَنَازِيرُ . وَالْخَنَازِيرُ أَيْضًا عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ ، وَهِيَ قُرُوحٌ صُلْبَةٌ تَحْدُثُ فِي الرَّقَبَةِ .
الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيْ ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=16973ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُعَطِّلِ . فَالْوَثَنِيُّ يَذْبَحُ لِلْوَثَنِ ، وَالْمَجُوسِيُّ لِلنَّارِ ، وَالْمُعَطِّلُ لَا يَعْتَقِدُ شَيْئًا فَيَذْبَحُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا ذَبَحَهُ الْمَجُوسِيُّ لِنَارِهِ وَالْوَثَنِيُّ لِوَثَنِهِ لَا يُؤْكَلُ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمَا عِنْدَ
مَالِكٍ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَذْبَحَا لِنَارِهِ وَوَثَنِهِ ، وَأَجَازَهُمَا
ابْنُ الْمُسَيَّبِ nindex.php?page=showalam&ids=11956وَأَبُو ثَوْرٍ إِذَا ذَبَحَ لِمُسْلِمٍ بِأَمْرِهِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " ، وَالْإِهْلَالُ : رَفْعُ الصَّوْتِ ، يُقَالُ : أَهَلَّ بِكَذَا ، أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ . قَالَ
ابْنُ أَحْمَرَ يَصِفُ فَلَاةً :
يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانَهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ
وَقَالَ
النَّابِغَةُ :
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَمِنْهُ إِهْلَالُ الصَّبِيِّ وَاسْتِهْلَالُهُ ، وَهُوَ صِيَاحُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : الْمُرَادُ مَا ذُبِحَ لِلْأَنْصَابِ وَالْأَوْثَانِ ، لَا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ
الْمَسِيحِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ "
[ ص: 211 ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَجَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِالصِّيَاحِ بِاسْمِ الْمَقْصُودِ بِالذَّبِيحَةِ ، وَغَلَبَ ذَلِكَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ حَتَّى عُبِّرَ بِهِ عَنِ النِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَاعَى النِّيَّةَ فِي الْإِبِلِ الَّتِي نَحَرَهَا
غَالِبٌ أَبُو الْفَرَزْدَقِ فَقَالَ : إِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، فَتَرَكَهَا النَّاسُ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَرَأَيْتُ فِي أَخْبَارِ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=16989امْرَأَةٍ مُتْرَفَةٍ صَنَعَتْ لِلُعَبِهَا عُرْسًا فَنَحَرَتْ جَزُورًا ، فَقَالَ
الْحَسَنُ : لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا نُحِرَتْ لِصَنَمٍ .
قُلْتُ : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ
يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ شَيْخِ
مُسْلِمٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا
جَرِيرٌ nindex.php?page=hadith&LINKID=860738عَنْ قَابُوسٍ قَالَ : أَرْسَلَ أَبِي امْرَأَةً إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَقْرَأَ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْهُ ، وَتَسْأَلَهَا أَيَّةَ صَلَاةٍ كَانَتْ أَعْجَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُومُ عَلَيْهَا . قَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يُطِيلُ فِيهِنَّ الْقِيَامَ وَيُحْسِنُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَدَعْ قَطُّ ، صَحِيحًا وَلَا مَرِيضًا وَلَا شَاهِدًا ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ . قَالَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ لَنَا أَظْآرًا مِنَ الْعَجَمِ لَا يَزَالُ يَكُونُ لَهُمْ عِيدٌ فَيُهْدُونَ لَنَا مِنْهُ ، أَفَنَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا ؟ قَالَتْ : أَمَّا مَا ذُبِحَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ كُلُوا مِنْ أَشْجَارِهِمْ .
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنِ اضْطُرَّ قُرِئَ بِضَمِ النُّونِ لِلِاتِّبَاعِ وَبِالْكَسْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ ، أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ أَيْ أُحْوِجَ إِلَيْهَا ، فَهُوَ افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ ، وَقَرَأَ
ابْنُ مُحَيْصِنٍ " فَمَنِ اطُّرَ " بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ ،
وَأَبُو السَّمَّالِ " فَمَنِ اضْطِرَّ " بِكَسْرِ الطَّاءِ ، وَأَصْلُهُ اضْطُرَرَ فَلَمَّا أُدْغِمَتْ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الرَّاءِ إِلَى الطَّاءِ .
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : الِاضْطِرَارُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَنْ صَيَّرَهُ الْعُدْمُ وَالْغَرَثُ وَهُوَ الْجُوعُ إِلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أُكْرِهَ وَغُلِبَ عَلَى أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ . قَالَ
مُجَاهِدٌ : يَعْنِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَالرَّجُلِ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، إِلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبِيحُ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ الْإِكْرَاهِ .
وَأَمَّا الْمَخْمَصَةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ دَائِمَةً أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَتْ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=16907الشِّبَعِ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهَا وَهُوَ يَجِدُ مَالَ مُسْلِمٍ لَا يَخَافُ فِيهِ قَطْعًا ، كَالتَّمْرِ الْمُعَلَّقِ وَحَرِيسَةِ الْجَبَلِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا قَطْعَ فِيهِ وَلَا أَذًى ، وَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ، لِحَدِيثِ
أَبِي [ ص: 212 ] هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860739بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ رَأَيْنَا إِبِلًا مَصْرُورَةً بِعِضَاهِ الشَّجَرِ فَثُبْنَا إِلَيْهَا فَنَادَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْإِبِلَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ قُوَّتُهُمْ وَيُمْنُهُمْ بَعْدَ اللَّهِ أَيَسُرُّكُمْ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَزَاوِدِكُمْ فَوَجَدْتُمْ مَا فِيهَا قَدْ ذَهَبَ بِهِ أَتَرَوْنَ ذَلِكَ عَدْلًا قَالُوا لَا ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ كَذَلِكَ . قُلْنَا : أَفَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجْنَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ؟ فَقَالَ : كُلْ وَلَا تَحْمِلْ وَاشْرَبْ وَلَا تَحْمِلْ . خَرَّجَهُ
ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ : هَذَا الْأَصْلُ عِنْدِي ، وَذَكَرَهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860740قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا يَحِلُّ لِأَحَدِنَا مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : يَأْكُلُ وَلَا يَحْمِلُ وَيَشْرَبُ وَلَا يَحْمِلُ . قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَكُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَرْدُودٌ إِلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ الْأَمْوَالَ . قَالَ
أَبُو عُمَرَ : وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ رَدَّ رَمَقِ مُهْجَةِ الْمُسْلِمِ ، وَتَوَجَّهَ الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ قُضِيَ عَلَيْهِ بِتَرْمِيقِ تِلْكَ الْمُهْجَةِ الْآدَمِيَّةِ ، وَكَانَ لِلْمَمْنُوعِ مِنْهُ مَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ مُحَارَبَةٌ مَنْ مَنْعِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَّا وَاحِدٌ لَا غَيْرَ ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ ، فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَوْ جَمَاعَةً وَعَدَدًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَالْمَاءُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَرُدُّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ وَيُمْسِكُهَا سَوَاءٌ . إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الَّذِي رُدَّتْ بِهِ مُهْجَتُهُ وَرَمَقَ بِهِ نَفَسَهُ ، فَأَوْجَبَهَا مُوجِبُونَ ، وَأَبَاهَا آخَرُونَ ، وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ جَمِيعًا ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مُتَأَخِّرِيهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ فِي وُجُوبِ رَدِّ مُهْجَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ خَوْفِ الذَّهَابِ وَالتَّلَفِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَفِيهِ الْبُلْغَةُ .
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : خَرَّجَ
ابْنُ مَاجَهْ أَنْبَأَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنْبَأَنَا
شَبَابَةُ ( ح ) وَحَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=15573مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَا حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11937أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ
عَبَّادَ بْنَ شُرَحْبِيلَ - رَجُلًا مِنْ
بَنِي غُبَّرٍ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860741أَصَابَنَا عَامًا مَخْمَصَةٌ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ وَجَعَلْتُهُ فِي كِسَائِي ، فَجَاءَ [ ص: 213 ] صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي وَأَخَذَ ثَوْبِي ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا أَوْ سَاغِبًا وَلَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ ، وَأَمَرَ لَهُ بِوَسْقٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ .
قُلْتُ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ اتَّفَقَ عَلَى رِجَالِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، إِلَّا
ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ فَإِنَّهُ
لِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ
وَعَبَّادُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْغُبَرِيُّ الْيَشْكُرِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ شَيْئًا ، وَلَيْسَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِيمَا ذَكَرَ
أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ يَنْفِي الْقَطْعَ وَالْأَدَبَ فِي الْمَخْمَصَةِ . وَقَدْ رَوَى
أَبُو دَاوُدَ عَنِ
الْحَسَنِ عَنْ
سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860742إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ . وَذَكَرَ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ
يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860743مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً . قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ
يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860744أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ، فَقَالَ : مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . قَالَ فِيهِ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي
[ ص: 214 ] حَدِيثُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ ثِبَانًا . قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ
أَبُو عُمَرَ : وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ الشَّيْءُ ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَهُوَ ثِبَانٌ ، يُقَالُ : قَدْ تَثَبَّنْتُ ثِبَانًا ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَهُوَ الْحَالُ ، يُقَالُ مِنْهُ : قَدْ تَحَوَّلْتُ كِسَائِي إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكِ ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ فِي حِضْنِكَ فَهُوَ خُبْنَةٌ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَرْفُوعُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860745وَلَا يَتَّخِذُ خُبْنَةً . يُقَالُ مِنْهُ : خَبَنْتُ أَخْبِنُ خَبْنًا . قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ رُخِّصَ فِيهِ لِلْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَا شَيْءَ مَعَهُ يَشْتَرِي بِهِ أَلَّا يَحْمِلَ إِلَّا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ قَدْرَ قُوَّتِهِ .
قُلْتُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ بِعَمَلِ ذَلِكَ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ كَمَا هُوَ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَوْقَاتِ الْمَجَاعَةِ وَالضَّرُورَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ النَّادِرُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَضَلَّعَ ، وَيَتَزَوَّدُ إِذَا خَشِيَ الضَّرُورَةَ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَقَفْرٍ ، وَإِذَا وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا . قَالَ مَعْنَاهُ
مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ ، وَبِهِ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ ، وَحَدِيثُ الْعَنْبَرِ نَصٌّ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ سَفَرِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمُ الزَّادُ ، انْطَلَقُوا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَهُمْ عَلَى سَاحِلِهِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ ، فَلَمَّا أَتَوْهُ إِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ ، فَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرُهُمْ : مَيْتَةٌ . ثُمَّ قَالَ : لَا ، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا . قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا ، الْحَدِيثَ ، فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَيْتَةً وَتَزَوَّدُوا مِنْهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَلَالٌ وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860746هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ .
nindex.php?page=treesubj&link=16907يَأْكُلُ بِقَدْرِ سَدِّ الرَّمَقِ . وَبِهِ قَالَ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ حَبِيبٍ وَفَرَّقَ أَصْحَابُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ بَيْنَ حَالَةِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فَقَالُوا : الْمُقِيمُ يَأْكُلُ بِقَدْرِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ ، وَالْمُسَافِرُ يَتَضَلَّعُ وَيَتَزَوَّدُ : فَإِذَا وَجَدَ غِنًى عَنْهَا طَرَحَهَا ، وَإِنْ وَجَدَ مُضْطَرًّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ عِوَضًا ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33558الْمَيْتَةَ لَاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا .
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : فَإِنِ
nindex.php?page=treesubj&link=17191اضْطُرَّ إِلَى خَمْرٍ فَإِنْ كَانَ بِإِكْرَاهٍ شَرِبَ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ
[ ص: 215 ] بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَلَا يَشْرَبُ ، وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ : وَلَا يَزِيدُهُ الْخَمْرُ إِلَّا عَطَشًا . وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا ، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13658الْأَبْهَرِيُّ : إِنْ رَدَّتِ الْخَمْرُ عَنْهُ جُوعًا أَوْ عَطَشًا شَرِبَهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ إِنَّهَا رِجْسٌ فَتَدْخُلُ فِي إِبَاحَةِ الْخِنْزِيرِ لِلضَّرُورَةِ بِالْمَعْنَى الْجَلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ وَلَوْ سَاعَةً ، وَتَرُدَّ الْجُوعَ وَلَوْ مُدَّةً .
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : رَوَى
أَصْبَغُ عَنِ
ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ : يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَقْرَبُ ضَوَالَّ الْإِبِلِ - وَقَالَهُ
ابْنُ وَهْبٍ - وَيَشْرَبُ الْبَوْلَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ ; لِأَنَّ الْخَمْرَ يَلْزَمُ فِيهَا الْحَدُّ فَهِيَ أَغْلَظُ . نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ .
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ :
nindex.php?page=treesubj&link=17192فَإِنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَهَلْ يُسِيغُهَا بِخَمْرٍ أَوْ لَا ، فَقِيلَ : لَا ، مَخَافَةَ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ ، وَأَجَازَ ذَلِكَ
ابْنُ حَبِيبٍ ; لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ .
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ : " أَمَّا الْغَاصُّ بِلُقْمَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنْ شَاهَدْنَاهُ فَلَا تَخْفَى عَلَيْنَا بِقَرَائِنِ الْحَالِ صُورَةُ الْغُصَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَيُصَدَّقُ إِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَدَدْنَاهُ ظَاهِرًا وَسَلِمَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنًا ، ثُمَّ إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا وَلَحْمَ ابْنِ آدَمَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ; لِأَنَّهَا حَلَالٌ فِي حَالِ ، وَالْخِنْزِيرُ وَابْنُ آدَمَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُخَفَّفُ أَوْلَى أَنْ يُقْتَحَمَ مِنَ التَّحْرِيمِ الْمُثَقَّلِ ، كَمَا لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=29450أُكْرِهَ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً ، وَطِئَ الْأَجْنَبِيَّةَ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ ، وَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ ، وَلَا يَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ ، قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا ، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَدَاوُدُ . احْتَجَّ
أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860747كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : يَأْكُلُ لَحْمَ ابْنِ آدَمَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ مُحْتَرَمُ الدَّمِ ، وَلَا مُسْلِمًا وَلَا أَسِيرًا لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ ، فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا جَازَ قَتْلُهُ وَالْأَكْلُ مِنْهُ ، وَشَنَّعَ
دَاوُدُ عَلَى
الْمُزَنِيِّ بِأَنْ قَالَ : قَدْ أَبَحْتُ أَكْلَ لُحُومِ الْأَنْبِيَاءِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ
ابْنُ شُرَيْحٍ بِأَنْ قَالَ : فَأَنْتَ قَدْ تَعَرَّضْتَ لِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ إِذْ مَنَعْتَهُمْ مِنْ أَكْلِ الْكَافِرِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ : الصَّحِيحُ عِنْدِي أَلَّا يَأْكُلَ الْآدَمِيَّ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِ وَيُحْيِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ ص: 216 ] السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : سُئِلَ
مَالِكٌ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=23988الْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ يَجِدُ مَالَ الْغَيْرِ تَمْرًا أَوْ زَرْعًا أَوْ غَنَمًا ، فَقَالَ : إِنْ أَمِنَ الضَّرَرَ عَلَى بَدَنِهِ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ سَارِقًا وَيُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ ، أَكَلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا ، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى ، وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ وَأَنْ يَعُدُّوهُ سَارِقًا فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةَ أَجْوَزُ عِنْدِي ، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ سَعَةٌ .
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : رَوَى
أَبُو دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16052سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=98جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ nindex.php?page=hadith&LINKID=860748أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ نَاقَةً لِي ضَلَّتْ فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا ، فَوَجَدَهَا فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبهَا فَمَرِضَتْ ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ : انْحَرْهَا ، فَأَبَى فَنَفَقَتْ ، فَقَالَتِ : اسْلَخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ لَحْمَهَا وَشَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ ، فَقَالَ : حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ قَالَ لَا ، قَالَ : فَكُلُوهَا قَالَ : فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا فَقَالَ : اسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ . قَالَ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَإِنْ لَمْ يَخَفِ التَّلَفَ ، لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْغِنَى وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالثَّانِي : يَأْكُلُ وَيَشْبَعُ وَيَدَّخِرُ وَيَتَزَوَّدُ ; لِأَنَّهُ أَبَاحَهُ الِادِّخَارَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَلَّا يَشْبَعَ . قَالَ
أَبُو دَاوُدَ : وَحَدَّثَنَا
هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=12180الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ أَنْبَأَنَا
عُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عُقْبَةَ الْعَامِرِيُّ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860749سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا يُحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةَ ؟ قَالَ : مَا طَعَامُكُمْ قُلْنَا : نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ . قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ : فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ : قَدَحٌ غَدْوَةً وَقَدَحٌ عَشِيَّةً قَالَ : ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ . قَالَ : فَأَحَلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ . قَالَ
أَبُو دَاوُدَ : الْغَبُوقُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ وَالصَّبُوحُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14228الْخَطَّابِيُّ : الْغَبُوقُ الْعَشَاءُ ، وَالصَّبُوحُ الْغَدَاءُ ، وَالْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ بِالْغَدَاةِ ، وَالْقَدَحُ بِالْعَشِيِّ يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُقِيمُ النَّفْسَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُغَذِّي الْبَدَنَ وَلَا يُشْبِعُ الشِّبَعَ التَّامَّ ، وَقَدْ أَبَاحَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ ، فَكَانَ دَلَالَتُهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ مُبَاحٌ إِلَى أَنْ تَأْخُذَ النَّفْسُ حَاجَتَهَا مِنَ الْقُوتِ . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
مَالِكٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ . قَالَ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ : إِذَا جَازَ أَنْ يَصْطَبِحُوا وَيَغْتَبِقُوا جَازَ أَنْ يَشْبَعُوا وَيَتَزَوَّدُوا ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْمُزَنِيُّ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا شَيْئًا ، فَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَهَا بَعْدَ تَنَاوُلِهَا ، وَرُوِيَ
[ ص: 217 ] نَحْوُهُ عَنِ
الْحَسَنِ . وَقَالَ
قَتَادَةُ : لَا يَتَضَلَّعُ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، وَقَالَ
مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : لَا يَزْدَادُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا ، كَمَا تَقَدَّمَ .
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=17416التَّدَاوِي بِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا قَائِمَةَ الْعَيْنِ أَوْ مُحْرِقَةً ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بِالْإِحْرَاقِ فَقَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ : يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا وَالصَّلَاةُ ، وَخَفَّفَهُ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرْقَ تَطْهِيرُ لِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ
مَالِكٍ فِي الْمَرْتَكِ يُصْنَعُ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ إِذَا وَضَعَهُ فِي جُرْحِهِ لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ . وَإِنْ كَانَتِ الْمَيْتَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَقَدْ قَالَ
سَحْنُونٌ : لَا يُتَدَاوَى بِهَا بِحَالٍ وَلَا بِالْخِنْزِيرِ ; لِأَنَّ مِنْهَا عِوَضًا حَلَالًا بِخِلَافِ الْمَجَاعَةِ ، وَلَوْ وُجِدَ مِنْهَا عِوَضٌ فِي الْمَجَاعَةِ لَمْ تُؤْكَلْ ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ لَا يُتَدَاوَى بِهَا ، قَالَهُ
مَالِكٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=11872الْقَاضِي الطَّبَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ
الثَّوْرِيِّ ، وَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ دُونَ التَّدَاوِي ، لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَطَشِ عَاجِلٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي ، وَقِيلَ : يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَمَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ التَّدَاوِي بِكُلِّ مُحَرَّمٍ إِلَّا بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ خَاصَّةً ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينِ ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمُ التَّدَاوِي بِكُلِّ مُحَرَّمٍ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِطَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ وَقَدْ
nindex.php?page=hadith&LINKID=860751سَأَلَهُ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ ، إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٍ . رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَيَّدَ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=17420التَّدَاوِي بِالسُّمِّ وَلَا يَجُوزُ شُرْبُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ : غَيْرَ بَاغٍ غَيْرَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ ، وَقِيلَ : عَلَى
[ ص: 218 ] الِاسْتِثْنَاءِ ، وَإِذَا رَأَيْتَ غَيْرَ يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهِ " فِي " فَهِيَ حَالٌ ، وَإِذَا صَلُحَ مَوْضِعُهَا " إِلَّا " فَهِيَ اسْتِثْنَاءٌ ، فَقِسْ عَلَيْهِ . وَبَاغٍ أَصْلُهُ بَاغِي ، ثُقِّلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فَسُكِّنَتْ وَالتَّنْوِينُ سَاكِنٌ ، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا ، وَالْمَعْنَى فِيمَا قَالَ
قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ ، وَلَا عَادٍ بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً وَيَأْكُلَهَا وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ : غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً وَتَلَذُّذًا ، وَلَا عَادٍ بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ nindex.php?page=showalam&ids=13033وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا : الْمَعْنَى غَيْرُ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِيِّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ وَالْغَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا شَاكَلَهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ قَصْدُ الْفَسَادِ ، يُقَالُ : بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=33وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ الْبَغْيُ فِي طَلَبِ غَيْرِ الْفَسَادِ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ : خَرَجَ الرَّجُلُ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ ، أَيْ فِي طَلَبِهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمِ
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا عَادٍ أَصْلُ عَادٍ عَائِدٌ ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ ، كَشَاكِي السِّلَاحِ وَهَارٍ وَلَاثٍ ، وَالْأَصْلُ شَائِكٌ وَهَائِرٌ وَلَائِثٌ ، مِنْ لُثْتُ الْعِمَامَةَ ، فَأَبَاحَ اللَّهُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَكْلَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَجْزِهِ عَنْ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا بَيَّنَّا ، فَصَارَ عَدَمُ الْمُبَاحِ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ .
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
nindex.php?page=treesubj&link=16905_26850إِذَا اقْتَرَنَ بِضَرُورَتِهِ مَعْصِيَةٌ بِقَطْعِ طَرِيقٍ وَإِخَافَةِ سَبِيلٍ ، فَحَظَرَهَا عَلَيْهِ
مَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِأَجْلِ مَعْصِيَتِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا ، وَالْعَاصِي لَا يَحِلُّ أَنْ يُعَانَ ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْلَ فَلْيَتُبْ وَلْيَأْكُلْ . وَأَبَاحَهَا لَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَهُ ، وَسَوِيًّا فِي اسْتِبَاحَتِهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ ، فَإِنْ قَالَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا .
قُلْتُ : الصَّحِيحُ خِلَافَ هَذَا ، فَإِنَّ إِتْلَافَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَشَدُّ مَعْصِيَةً مِمَّا هُوَ فِيهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وَهَذَا عَامٌّ ، وَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فِي ثَانِي حَالٍ فَتَمْحُو التَّوْبَةُ عَنْهُ مَا كَانَ ، وَقَدْ قَالَ
مَسْرُوقٌ : مَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=16905اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ
أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإِلْكِيَا : وَلَيْسَ
[ ص: 219 ] nindex.php?page=treesubj&link=16905أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَاصِيًا ، وَلَيْسَ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالسَّفَرِ بَلْ هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الضَّرُورَةِ سَفَرًا كَانَ أَوْ حَضَرًا ، وَهُوَ كَالْإِفْطَارِ لِلْعَاصِي الْمُقِيمِ إِذَا كَانَ مَرِيضًا ، وَكَالتَّيَمُّمِ لِلْعَاصِي الْمُسَافِرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ . قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا .
قُلْتُ : وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ
مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11927الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَقَالَ
ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ : فَأَمَّا الْأَكْلُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي فِيهِ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْمَيْتَةَ يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَلَيْسَ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ إِلَى الْمَعَاصِي يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ بَلْ أَسْوَأُ حَالَةٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ ; لِأَنَّهُمَا رُخْصَتَانِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِالسَّفَرِ ، فَمَتَى كَانَ السَّفَرُ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ تَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّهُ يَتَيَمَّمُ إِذَا عُدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ . وَكَيْفَ يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّيَمُّمِ لِأَجْلِ مَعْصِيَةٍ ارْتَكَبَهَا ، وَفِي تَرْكِهِ الْأَكْلَ تَلَفُ نَفْسِهِ ، وَتِلْكَ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي ، وَفِي تَرْكِهِ التَّيَمُّمَ إِضَاعَةٌ لِلصَّلَاةِ . أَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : ارْتَكَبْتُ مَعْصِيَةً فَارْتَكِبْ أُخْرَى ؟ أَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ : ازْنِ ؟ وَلِلزَّانِي : اكْفُرْ ؟ أَوْ يُقَالُ لَهُمَا : ضَيِّعَا الصَّلَاةَ ؟ ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا عَنْ
مَالِكٍ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11927الْبَاجِيُّ : " وَرَوَى
زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَيُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ ، فَسَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ ، وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ، وَمَنْ كَانَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْفُرُوضُ وَالْوَاجِبَاتُ مِنَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهَا ، فَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ إِنَّمَا أُبِيحَتْ فِي الْأَسْفَارِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي وَلَهُ سَبِيلَ إِلَى أَلَّا يَقْتُلَ نَفْسَهُ . قَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ : وَذَلِكَ بِأَنْ يَتُوبَ ثُمَّ يَتَنَاوَلَ لَحْمَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ ، وَتَعَلَّقَ
ابْنُ حَبِيبٍ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَاشْتَرَطَ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ أَلَّا يَكُونَ بَاغِيًا ، وَالْمُسَافِرُ عَلَى وَجْهِ الْحِرَابَةِ أَوِ الْقَطْعِ ، أَوْ فِي قَطْعِ رَحِمٍ أَوْ طَالِبِ إِثْمٍ - بَاغٍ وَمُعْتَدٍ ، فَلَمْ تُوجَدْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِبَاحَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قُلْتُ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ ، وَمَنْظُومُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُضْطَرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَغَيْرُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ ، وَالْأَصْلُ عُمُومُ الْخِطَابِ ، فَمَنِ ادَّعَى زَوَالَهُ لِأَمْرٍ مَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
[ ص: 220 ] الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ يَغْفِرُ الْمَعَاصِي ، فَأَوْلَى أَلَّا يُؤَاخِذَ بِمَا رُخِّصَ فِيهِ ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ رَخَّصَ .