[ ص: 135 ] القول في تأويل فاتحة الكتاب
(
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2nindex.php?page=treesubj&link=28972_33144_19609الحمد لله ) :
قال
أبو جعفر : ومعنى ( الحمد لله ) : الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم لذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا .
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه : ( الحمد لله ) ، جاء الخبر عن
ابن عباس وغيره : -
151 - حدثنا
محمد بن العلاء ، قال : حدثنا
عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا
بشر بن عمارة ، قال : حدثنا
أبو روق ، عن
الضحاك ، عن
ابن عباس ، قال : قال
جبريل لمحمد صلى الله عليهما : قل يا
محمد "الحمد لله " قال
ابن عباس : "الحمد لله " : هو الشكر لله ، والاستخذاء لله ، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه ، وغير ذلك .
[ ص: 136 ]
152 - وحدثني
سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا
بقية بن الوليد ، قال : حدثني
عيسى بن إبراهيم ، عن
موسى بن أبي حبيب ، عن
الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قلت "الحمد لله رب العالمين " ، فقد شكرت الله ، فزادك . [ ص: 137 ]
قال : وقد قيل : إن قول القائل "الحمد لله " ، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، وقوله : "الشكر لله " ، ثناء عليه بنعمه وأياديه .
وقد روي عن
كعب الأحبار أنه قال : "الحمد لله " ، ثناء على الله . ولم يبين في الرواية عنه ، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك .
153 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أنبأنا
ابن وهب ، قال : حدثني
عمر بن محمد ، عن
سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : أخبرني
السلولي ، عن
كعب ، قال : من قال "الحمد لله " ، فذلك ثناء على الله .
154 - حدثني
علي بن الحسن الخراز ، قال : حدثنا
مسلم بن عبد الرحمن الجرمي ، قال : حدثنا
محمد بن مصعب القرقساني ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16874مبارك بن فضالة ، عن
الحسن ، عن
الأسود بن سريع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811241أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس شيء أحب إليه الحمد ، من الله تعالى ، ولذلك أثنى على نفسه فقال : "الحمد لله " . [ ص: 138 ]
قال
أبو جعفر : ولا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم ، لقول القائل : "الحمد لله شكرا " - بالصحة . فقد تبين - إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا - أن الحمد لله قد ينطق به في موضع الشكر ، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد . لأن ذلك لو لم يكن كذلك ، لما جاز أن يقال "الحمد لله شكرا " ، فيخرج من قول القائل "الحمد لله " مصدر : "أشكر " ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه .
فإن قال لنا قائل : وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد ؟ وهلا قيل : حمدا لله رب العالمين ؟
قيل : إن لدخول الألف واللام في الحمد ، معنى لا يؤديه قول القائل "حمدا " ، بإسقاط الألف واللام . وذلك أن دخولهما في الحمد منبئ عن أن معناه : جميع المحامد والشكر الكامل لله . ولو أسقطتا منه لما دل إلا على أن حمد قائل ذلك لله ، دون المحامد كلها . إذ كان معنى قول القائل : "حمدا لله " أو "حمد لله " :
[ ص: 139 ] أحمد الله حمدا ، وليس التأويل في قول القائل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ، تاليا سورة أم القرآن : أحمد الله ، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل ، من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كفاء لها في الدين والدنيا ، والعاجل والآجل .
ولذلك من المعنى ، تتابعت قراءة القراء وعلماء الأمة على رفع الحمد من (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) دون نصبها ، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك : أحمد الله حمدا . ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب ، لكان عندي محيلا معناه ، ومستحقا العقوبة على قراءته إياه كذلك ، إذا تعمد قراءته كذلك ، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله "الحمد لله " ؟ أحمد الله نفسه جل ثناؤه فأثنى عليها ، ثم علمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك ، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ) وهو عز ذكره معبود لا عابد ؟ أم ذلك من قيل
جبريل أو
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما .
قيل : بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ، ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل ، ثم علم ذلك عباده ، وفرض عليهم تلاوته ، اختبارا منه لهم وابتلاء ، فقال لهم قولوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ، وقولوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ) . فقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد ) مما علمهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه ، وذلك موصول بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ، وكأنه قال : قولوا هذا وهذا .
فإن قال : وأين قوله : "قولوا " ، فيكون تأويل ذلك ما ادعيت ؟
قيل : قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفت مكان الكلمة ،
[ ص: 140 ] ولم تشك أن سامعها يعرف ، بما أظهرت من منطقها ، ما حذفت - حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها ، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت ، قولا أو تأويل قول ، كما قال الشاعر :
وأعلم أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم ؟ فقال المخبرون لهم : وزير
قال
أبو جعفر : يريد بذلك ، فقال المخبرون لهم : الميت وزير ، فأسقط الميت ، إذ كان قد أتى من الكلام بما دل على ذلك . وكذلك قول الآخر :
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وقد علم أن الرمح لا يتقلد ، وإنما أراد : وحاملا رمحا ، ولكن لما كان معلوما معناه ، اكتفي بما قد ظهر من كلامه ، عن إظهار ما حذف منه . وقد يقولون للمسافر إذا ودعوه : "مصاحبا معافى " ، يحذفون "سر ، واخرج " ، إذ كان معلوما معناه ، وإن أسقط ذكره .
فكذلك ما حذف من قول الله تعالى ذكره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ، لما علم بقوله جل وعز : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد ) ما أراد بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ،
[ ص: 141 ] من معنى أمره عباده ، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف .
وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تأويل قول الله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين ) ، عن
ابن عباس ، وأنه كان يقول : إن
جبريل قال لمحمد : قل يا
محمد : "الحمد لله رب العالمين " ، وبينا أن
جبريل إنما علم
محمدا ما أمر بتعليمه إياه . وهذا الخبر ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك .
[ ص: 135 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2nindex.php?page=treesubj&link=28972_33144_19609الْحَمْدُ لِلَّهِ ) :
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : الشُّكْرُ خَالِصًا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ ، وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ ، فِي تَصْحِيحِ الْآلَاتِ لِطَاعَتِهِ ، وَتَمْكِينِ جَوَارِحِ أَجْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ ، مَعَ مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ ، وَغَذَّاهُمْ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْعَيْشِ ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَمَعَ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ ، مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دَوَامِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ . فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا .
وَبِمَا ذَكَرَنَا مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ رَبِّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : -
151 - حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ
الضَّحَّاكِ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ
جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا : قُلْ يَا
مُحَمَّدُ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " : هُوَ الشُّكْرُ لِلَّهِ ، وَالِاسْتِخْذَاءُ لِلَّهِ ، وَالْإِقْرَارُ بِنِعْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
[ ص: 136 ]
152 - وَحَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ
مُوسَى بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قُلْتَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ ، فَزَادَكَ . [ ص: 137 ]
قَالَ : وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى ، وَقَوْلُهُ : "الشُّكْرُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، مِنْ أَيِّ مَعْنَيَيِ الثَّنَاءِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .
153 - حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=17418يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا
ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ
سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي
السَّلُولِيُّ ، عَنْ
كَعْبٍ ، قَالَ : مَنْ قَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، فَذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ .
154 - حَدَّثَنِي
عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْخَرَّازُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقُرْقُسَانِيُّ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16874مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ ، عَنِ
الْحَسَنِ ، عَنِ
الْأُسُودِ بْنِ سَرِيعٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811241أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْحَمْدُ ، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " . [ ص: 138 ]
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنَ الْحُكْمِ ، لِقَوْلِ الْقَائِلِ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا " - بِالصِّحَّةِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ - إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ صَحِيحًا - أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ قَدْ يُنْطَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ ، وَأَنَّ الشُّكْرَ قَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْحَمْدِ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا " ، فَيَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " مَصْدَرُ : "أَشْكُرُ " ، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الْحَمْدِ ، كَانَ خَطَأً أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْحَمْدِ غَيْرُ مَعْنَاهُ وَغَيْرُ لَفْظِهِ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَا وَجْهُ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ ؟ وَهَلَّا قِيلَ : حَمْدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟
قِيلَ : إِنَّ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ ، مَعْنًى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ "حَمْدًا " ، بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ . وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُمَا فِي الْحَمْدِ مُنْبِئٌ عَنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالشُّكْرُ الْكَامِلُ لِلَّهِ . وَلَوْ أُسْقِطَتَا مِنْهُ لَمَا دَلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ حَمْدَ قَائِلِ ذَلِكَ لِلَّهِ ، دُونَ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا . إِذْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : "حَمْدًا لِلَّهِ " أَوْ "حَمْدٌ لِلَّهِ " :
[ ص: 139 ] أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا ، وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ ) ، تَالِيًا سُورَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ : أَحْمَدُ اللَّهَ ، بَلِ التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ ، مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا كِفَاءَ لَهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَالْعَاجِلِ وَالْآجِلِ .
وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى ، تَتَابَعَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَمْدِ مِنَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دُونَ نَصْبِهَا ، الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَالِيهِ كَذَلِكَ : أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا . وَلَوْ قَرَأَ قَارِئُ ذَلِكَ بِالنَّصْبِ ، لَكَانَ عِنْدِي مُحِيلًا مَعْنَاهُ ، وَمُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ عَلَى قِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ ، إِذَا تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِخَطَئِهِ وَفَسَادِ تَأْوِيلِهِ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ؟ أَحَمِدَ اللَّهُ نَفْسَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَثْنَى عَلَيْهَا ، ثُمَّ عَلَّمْنَاهُ لِنَقُولَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وَهُوَ عَزَّ ذِكْرُهُ مَعْبُودٌ لَا عَابِدٌ ؟ أَمْ ذَلِكَ مِنْ قِيلِ
جِبْرِيلَ أَوْ
مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلَّهِ كَلَامًا .
قِيلَ : بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ حَمِدَ نَفْسَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهَا بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، ثُمَّ عَلَّمَ ذَلِكَ عِبَادَهُ ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تِلَاوَتَهُ ، اخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاءً ، فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَقُولُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) . فَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) مِمَّا عَلَّمَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَقُولُوهُ وَيَدِينُوا لَهُ بِمَعْنَاهُ ، وَذَلِكَ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : قُولُوا هَذَا وَهَذَا .
فَإِنْ قَالَ : وَأَيْنَ قَوْلُهُ : "قُولُوا " ، فَيَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا ادَّعَيْتَ ؟
قِيلَ : قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ شَأْنِهَا - إِذَا عَرَفَتْ مَكَانَ الْكَلِمَةِ ،
[ ص: 140 ] وَلَمْ تَشُكَّ أَنَّ سَامِعَهَا يَعْرِفُ ، بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ مَنْطِقِهَا ، مَا حَذَفَتْ - حَذْفُ مَا كَفَى مِنْهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْطِقِهَا ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي حُذِفَتْ ، قَوْلًا أَوْ تَأْوِيلَ قَوْلٍ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا إِذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لَا يَسِيرُ
فَقَالَ السَّائِلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ ؟ فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ : وَزِيرُ
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : يُرِيدُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ : الْمَيِّتُ وَزِيرٌ ، فَأَسْقَطَ الْمَيِّتَ ، إِذْ كَانَ قَدْ أَتَى مِنَ الْكَلَامِ بِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ :
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ : وَحَامِلًا رُمْحًا ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ ، اكْتُفِيَ بِمَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ ، عَنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ مِنْهُ . وَقَدْ يَقُولُونَ لِلْمُسَافِرِ إِذَا وَدَّعُوهُ : "مُصَاحَبًا مُعَافًى " ، يَحْذِفُونَ "سِرْ ، وَاخْرُجْ " ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ ، وَإِنْ أَسْقَطَ ذِكْرَهُ .
فَكَذَلِكَ مَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، لَمَّا عُلِمَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ،
[ ص: 141 ] مِنْ مَعْنَى أَمْرِهِ عِبَادَهُ ، أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ إِبْدَاءٍ مَا حُذِفَ .
وَقَدْ رَوَيْنَا الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مُبْتَدَأً فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ
جِبْرِيلَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ : قُلْ يَا
مُحَمَّدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، وَبَيَّنَا أَنَّ
جِبْرِيلَ إِنَّمَا عَلَّمَ
مُحَمَّدًا مَا أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ . وَهَذَا الْخَبَرُ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ .