القول في ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ( 10 ) ) تأويل قوله (
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولقد وطأنا لكم ، أيها الناس ، في الأرض ، وجعلناها لكم قرارا تستقرون فيها ، ومهادا تمتهدونها ، وفراشا تفترشونها ( [ ص: 316 ] وجعلنا لكم فيها معايش ) ، تعيشون بها أيام حياتكم ، من مطاعم ومشارب ، نعمة مني عليكم ، وإحسانا مني إليكم ( قليلا ما تشكرون ) ، يقول : وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري ، واتخاذكم إلها سواي .
والمعايش : جمع " معيشة " .
واختلفت القرأة في قراءتها .
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار : ( معايش ) بغير همز .
وقرأه عبد الرحمن الأعرج : " معائش " بالهمز .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : ( معايش ) بغير همز ، لأنها " مفاعل " من قول القائل " عشت تعيش " ، فالميم فيها زائدة ، والياء في الحكم متحركة ، لأن واحدها " مفعلة " ، " معيشة " ، متحركة الياء ، نقلت حركة الياء منها إلى " العين " في واحدها . فلما جمعت ، ردت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها . وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا ، في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال " مفاعل " ، وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال " فعائل " التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل . فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال ، فالعرب تهمزه ، كقولهم : " هذه مدائن " و " صحائف " ونظائرهما ، لأن " مدائن " جمع " مدينة " ، و " المدينة " ، " فعيلة " من قولهم : " مدنت المدينة " ، وكذلك ، " صحائف " جمع " صحيفة " ، و " الصحيفة " ، " فعيلة " من قولك : " صحفت الصحيفة " ، فالياء في واحدها زائدة ساكنة ، فإذا جمعت همزت ، لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها ، وذلك أنها كانت [ ص: 317 ] في واحدها ساكنة ، وهي في الجمع متحركة . ولو جعلت " مدينة " " مفعلة " من : " دان يدين " ، وجمعت على " مفاعل " ، كان الفصيح ترك الهمز فيها . وتحريك الياء . وربما همزت العرب جمع " مفعلة " في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها . إذا جاءت على " مفاعل " تشبيها منهم جمعها بجمع " فعيلة " ، كما تشبه " مفعلا " " بفعيل " فتقول : " مسيل الماء " ، من : " سال يسيل " ، ثم تجمعها جمع " فعيل " ، فتقول : " هي أمسلة " ، في الجمع ، تشبيها منهم لها بجمع " بعير " وهو " فعيل " ، إذ تجمعه " أبعرة " . وكذلك يجمع " المصير " وهو " مفعل " ، " مصران " تشبيها له بجمع : " بعير " وهو " فعيل " ، إذ تجمعه " بعران " ، وعلى هذا همز الأعرج " معايش " . وذلك ليس بالفصيح في كلامها ، وأولى ما قرئ به كتاب الله من الألسن أفصحها وأعرفها ، دون أنكرها وأشذها .