يقول تعالى ذكره ( وترى الشمس ) يا محمد ( إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) يعني بقوله : ( تزاور ) : تعدل وتميل ، من الزور : وهو العوج والميل ، يقال منه : في هذه الأرض زور : إذا كان فيها اعوجاج ، وفي فلان عن فلان ازورار ، إذا كان فيه عنه إعراض ، ومنه قول بشر بن أبي خازم :
يؤم بها الحداة مياه نخل وفيها عن أبانين ازورار
يعني : إعراضا وصدا .
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة : " تزاور " بتشديد الزاي ، بمعنى : تتزاور بتاءين ، ثم أدغم إحدى التاءين في الزاي ، كما قيل : تظاهرون عليهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : ( تزاور ) بتخفيف التاء والزاي ، كأنه عنى به : تفاعل من الزور ، وروي عن بعضهم : " تزور " بتخفيف التاء وتسكين الزاي وتشديد الراء ، مثل تحمر ، وبعضهم : تزوار : مثل تحمار .
والصواب من القول في قراءه ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان ، أعني ( تزاور ) بتخفيف الزاي ، و [ ص: 620 ] ( تزاور ) بتشديدها معروفتان ، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في قراء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب . وأما القراءتان الأخريان فإنهما قراءتان لا أرى القراءة بهما ، وإن كان لهما في العربية وجه مفهوم ، لشذوذهما عما عليه قرأة الأمصار .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( تزاور عن كهفهم ) قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار ، عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) قال : تميل .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) يقول : تميل عنهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) يقول : تميل عن كهفهم يمينا وشمالا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) يقول : تميل ذات اليمين ، تدعهم ذات اليمين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) قال : تميل عن كهفهم ذات اليمين .
حدثت عن عن يزيد بن هارون ، سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم ، ولو أنهم لا يقلبون لأكلتهم الأرض ، قال : وذلك قوله : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) .
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا [ ص: 621 ] محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( تزاور عن كهفهم ) تميل .
وقوله : ( وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) يقول تعالى ذكره : وإذا غربت الشمس تتركهم من ذات شمالهم . وإنما معنى الكلام : وترى الشمس إذا طلعت تعدل عن كهفهم ، فتطلع عليه من ذات اليمين ، لئلا تصيب الفتية ، لأنها لو طلعت عليهم قبالهم لأحرقتهم وثيابهم ، أو أشحبتهم ، وإذا غربت تتركهم بذات الشمال ، فلا تصيبهم ، يقال منه : قرضت موضع كذا : إذا قطعته فجاوزته ، وكذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، وأما الكوفيون فإنهم يزعمون أنه المحاذاة ، وذكروا أنهم سمعوا من العرب قرضته قبلا ودبرا ، وحذوته ذات اليمين والشمال ، وقبلا ودبرا : أي كنت بحذائه ، قالوا : والقرض والحذو بمعنى واحد ، وأصل القرض : القطع ، يقال منه : قرضت الثوب : إذا قطعته ، ومنه قيل للمقراض : مقراض ، لأنه يقطع ، ومنه قرض الفأر الثوب ، ومنه قول ذي الرمة :
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
يعني بقوله : يقرضن : يقطعن .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) يقول : تذرهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، [ ص: 622 ] عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال ( وإذا غربت تقرضهم ) تتركهم ذات الشمال .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( تقرضهم ) قال : تتركهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) يقول : تدعهم ذات الشمال .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : ( تقرضهم ذات الشمال ) قال : تدعهم ذات الشمال .
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : أخبرنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح عن سالم ، عن سعيد بن جبير ( وإذا غربت تقرضهم ) قال : تتركهم .
وقوله : ( وهم في فجوة منه ) يقول : والفتية الذين أووا إليه في متسع منه يجمع : فجوات ، وفجاء ممدودا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وهم في فجوة منه ) يقول : في فضاء من الكهف ، قال الله ( ذلك من آيات الله ) .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ( وهم في فجوة منه ) قال : المكان الداخل .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( وهم في فجوة منه ) قال : المكان الذاهب .
حدثني ابن سنان ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا محمد بن مسلم [ ص: 623 ] أبو سعيد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ( في فجوة منه ) قال : في مكان داخل .
وقوله : ( ذلك من آيات الله ) يقول عز ذكره :
فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء الفتية الذين قصصنا عليكم أمرهم من تصييرناهم ، إذ أردنا أن نضرب على آذانهم بحيث تزاور الشمس عن مضاجعهم ذات اليمين إذا هي طلعت ، وتقرضهم ذات الشمال إذا هي غربت ، مع كونهم في المتسع من المكان ، بحيث لا تحرقهم الشمس فتشحبهم ، ولا تبلى على طول رقدتهم ثيابهم ، فتعفن على أجسادهم ، من حجج الله وأدلته على خلقه ، والأدلة التي يستدل بها أولو الألباب على عظيم قدرته وسلطانه ، وأنه لا يعجزه شيء أراده ، وقوله ( من يهد الله فهو المهتدي ) يقول عز وجل : من يوفقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحق التي جعلها أدلة عليه ، فهو المهتد : يقول : فهو الذي قد أصاب سبيل الحق ( ومن يضلل ) يقول : ومن أضله الله عن آياته وأدلته ، فلم يوفقه للاستدلال بها على سبيل الرشاد ( فلن تجد له وليا مرشدا ) يقول : فلن تجد له يا محمد خليلا وحليفا يرشده لإصابتها ، لأن التوفيق والخذلان بيد الله ، يوفق من يشاء من عباده ، ويخذل من أراد ، يقول : فلا يحزنك إدبار من أدبر عنك من قومك وتكذيبهم إياك ، فإني لو شئت هديتهم فآمنوا ، وبيدي الهداية والضلال .