القول في تأويل قوله تعالى : ( فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ومن الناس من يعبد الله على حرف ( 11 ) )
يعني جل ذكره بقوله ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين من باديتهم ، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام ، وإلا ارتدوا على أعقابهم ، فقال الله ( ومن الناس من يعبد الله ) على شك ، ( فإن أصابه خير اطمأن به ) وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا اطمأن به يقول : استقر بالإسلام وثبت عليه ( وإن أصابته فتنة ) وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا ( انقلب على وجهه ) يقول : ارتد فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) . . . إلى قوله ( انقلب على وجهه ) قال : الفتنة البلاء ، كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صح بها جسمه ، ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن إليه وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا ، وإن أصابه وجع المدينة ، وولدت امرأته [ ص: 576 ] جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرا ، وذلك الفتنة .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام قال : ثنا عنبسة عن أبي بكر عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قول الله ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) قال : على شك .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( على حرف ) قال : على شك ( فإن أصابه خير ) رخاء وعافية ( اطمأن به استقر وإن أصابته فتنة ) عذاب ومصيبة ( انقلب ) ارتد ( على وجهه ) كافرا .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد بنحوه .
قال : كان ناس من قبائل العرب ومن حولهم من أهل القرى يقولون : نأتي ابن جريج محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بأهلنا .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة ( من يعبد الله على حرف ) قال : شك . ( فإن أصابه خير ) يقول : أكثر ماله وكثرت ماشيته اطمأن وقال : لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير ( وإن إصابته فتنة ) يقول : وإن ذهب ماله ، وذهبت ماشيته ( انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة نحوه .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) الآية ، كان ناس من قبائل العرب ومن حول المدينة من القرى كانوا يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فننظر في شأنه ، فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بمنازلنا وأهلينا . وكانوا يأتونه فيقولون : نحن على دينك ! فإن أصابوا معيشة ونتجوا [ ص: 577 ] خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان ، اطمأنوا وقالوا : هذا دين صدق ، وإن تأخر عنهم الرزق ، وأزلقت خيولهم ، وولدت نساؤهم البنات ، قالوا : هذا دين سوء ، فانقلبوا على وجوههم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) قال : هذا المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب ، ولا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه . وإذا أصابته شدة أو فتنة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر .
وقوله ( خسر الدنيا والآخرة ) يقوله : غبن هذا الذي وصف جل ثناؤه صفته دنياه ، لأنه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك ، ووضع في تجارته فلم يربح ، والآخرة يقول : وخسر الآخرة فإنه معذب فيها بنار الله الموقدة . وقوله ( ذلك هو الخسران المبين ) يقول : وخسارته الدنيا والآخرة هي الخسران : يعني الهلاك المبين : يقول : يبين لمن فكر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والآخرة .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء الأمصار جميعا غير حميد الأعرج ( خسر الدنيا والآخرة ) على وجه المضي . وقرأه حميد الأعرج ( خاسرا ) نصبا على الحال على مثال فاعل .