يقول تعالى ذكره : . وأصل المرج الخلط ، ثم يقال للتخلية مرج ; لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره ، فكأنه قد مرجه ، ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله والله الذي خلط البحرين ، فأمرج أحدهما في الآخر ، وأفاضه فيه : " لعبد الله بن عمرو عبد الله إذا كنت في حثالة من الناس ، قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، وصاروا هكذا وشبك بين أصابعه . يعني بقوله : قد مرجت : اختلطت ، ومنه قول الله : ( كيف بك يا في أمر مريج ) أي مختلط . وإنما قيل للمرج مرج من ذلك ، لأنه يكون فيه أخلاط من الدواب ، ويقال : مرجت دابتك : أي خليتها تذهب حيث شاءت . ومنه قول الراجز :
رعى بها مرج ربيع ممرج
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
[ ص: 282 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وهو الذي مرج البحرين ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( مرج البحرين ) أفاض أحدهما على الآخر .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، مثله .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وهو الذي مرج البحرين ) يقول : خلع أحدهما على الآخر .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ( مرج ) أفاض أحدهما على الآخر .
وقوله ( هذا عذب فرات ) الفرات : شديد العذوبة ، يقال : هذا ماء فرات : أي شديد العذوبة وقوله ( وهذا ملح أجاج ) يقول : وهذا ملح مر ، يعني بالعذب الفرات : مياه الأنهار والأمطار ، وبالملح الأجاج : مياه البحار .
وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه ، وعظيم سلطانه ، يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج ، ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته ، وإفساده إياه بقضائه وقدرته ، لئلا يضر إفساده إياه بركبان الملح منهما ، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء ، فقال جل ثناؤه : ( وجعل بينهما برزخا ) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر ( وحجرا محجورا ) يقول : وجعل كل واحد منهما حراما محرما على صاحبه أن يغيره ويفسده .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ) يعني أنه خلع أحدهما [ ص: 283 ] على الآخر ، فليس يفسد العذب المالح ، وليس يفسد المالح العذب ، وقوله : ( وجعل بينهما برزخا ) قال : البرزخ : الأرض بينهما ( وحجرا محجورا ) يعني : حجر أحدهما على الآخر بأمره وقضائه ، وهو مثل قوله ( وجعل بين البحرين حاجزا ) .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وجعل بينهما برزخا ) قال : محبسا ، قوله : ( وحجرا محجورا ) قال : لا يختلط البحر بالعذب .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ( وجعل بينهما برزخا ) قال : حاجزا لا يراه أحد ، لا يختلط العذب في البحر . قال : فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب ، فإن دجلة تقع في البحر ، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر ، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض ، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر ، والنيل يصب في البحر . ابن جريج
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ( وجعل بينهما برزخا ) قال : البرزخ أنهما يلتقيان فلا يختلطان ، وقوله ( حجرا محجورا ) : أي لا تختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا ، لا يبغي أحدهما على الآخر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ، عن ابن علية رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) قال : هذا اليبس .
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) قال : جعل هذا ملحا أجاجا ، قال : والأجاج : المر .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : ( مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ) يقول : خلع أحدهما على الآخر ، فلا يغير أحدهما طعم الآخر ( وجعل بينهما برزخا ) هو الأجل ما بين الدنيا والآخرة ( وحجرا محجورا ) جعل الله بين البحرين حجرا ، يقول : حاجزا حجز أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : [ ص: 284 ] ( وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) وجعل بينهما سترا لا يلتقيان . قال : والعرب إذا كلم أحدهم الآخر بما يكره قال حجرا ، قال : سترا دون الذي تقول .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله : ( وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) دون القول الذي قاله من قال معناه : إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض أو من اليبس ، لأن الله تعالى ذكره أخبر في أول الآية أنه مرج البحرين ، والمرج : هو الخلط في كلام العرب على ما بينت قبل ، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين ، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين ، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما ، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات ، مع اختلاط كل واحد منهما بصاحبه . فأما إذا كان كل واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه ، فليس هناك مرج ، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس ، ويذكرون به ، وإن كان كل ما ابتدعه ربنا عجيبا ، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ .