القول في تأويل ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) قوله تعالى (
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " عباده أنه مؤاخذهم به ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله : " بما كسبت قلوبكم " ، ما تعمدت .
فقال بعضهم : المعنى الذي أوعد الله عباده مؤاخذتهم به : هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل .
ذكر من قال ذلك :
4466 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال : إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب فلا يؤاخذ بها . وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به . [ ص: 450 ]
4467 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا عن حسين الجعفي زائدة عن منصور قال : قال إبراهيم : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، قال : أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به .
4468 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو عن منصور عن إبراهيم : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، أن تحلف وأنت كاذب .
4469 - حدثني المثنى قال : [ حدثنا عبد الله بن صالح ] حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) [ سورة المائدة : 89 ] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة ، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة ، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم ، أو يرد ذلك المال إلى أهله ، وهو قوله تعالى ذكره : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) إلى قوله : ( ولهم عذاب أليم ) [ سورة آل عمران : 77 ] .
4470 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، ما عقدت عليه .
4471 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
4472 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن عبد الملك عن عطاء قال : [ ص: 451 ] لا تؤاخذ حتى تصعد للأمر ، ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو ، فتعقد عليه يمينك .
قال أبو جعفر : والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون . وكذلك روي عن الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوا فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم ، فلم يكن يوجب فيه الكفارة . وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل .
وإذ كان ذلك تأويل الآية عندهم ، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، واحفظوا أيمانكم .
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك ، كان سعيد بن جبير وجماعة أخر غيرهم يقولون ، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفا . والضحاك بن مزاحم
[ ص: 452 ] وقال آخرون : المعنى الذي أوعد الله تعالى عباده المؤاخذة بهذه الآية ، هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا . وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة ، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه ، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف ، وليس ذلك كذلك .
ذكر من قال ذلك :
4473 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد عن قتادة : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، يقول : بما تعمدت قلوبكم ، وما تعمدت فيه المأثم ، فهذا عليك فيه الكفارة .
4473 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع مثله سواء . [ ص: 453 ]
وكأن قائلي هذه المقالة ، وجهوا تأويل مؤاخذة الله عبده على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة ، إلى أنها مؤاخذة منه له بها بإلزامه الكفارة فيه . وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر ، في منهم إيجاب الكفارة على الحالف اليمين الفاجرة عطاء والحكم .
4474 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبا متعمدا : يكفر .
وقال آخرون : بل ذلك معنيان : أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارة منه ، والآخر منهما مؤاخذ به في الآخرة إلا أن يعفو .
ذكر من قال ذلك :
4475 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن : " ولكن السدي يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " أما " ما كسبت قلوبكم " فما عقدت قلوبكم ، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادة أن يقضي أمره . " . والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل ، ثم يرى خيرا من ذلك ، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره : " والأيمان ثلاثة : " اللغو ، والعمد ، والغموس ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، فهذه لها كفارة .
وكأن قائل هذه المقالة ، وجه تأويل قوله : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، إلى غير ما وجه إليه تأويل قوله : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، وجعل قوله : بما كسبت قلوبكم ، الغموس من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله : " بما عقدتم الأيمان " ، اليمين التي يستأنف فيها الحنث أو البر ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبر فيها .
وقال آخرون : بل ذلك : هو اعتقاد الشرك بالله والكفر .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 454 ]
4476 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال : حدثني يحيى بن أيوب عن - : أن محمد - يعني ابن عجلان كان يقول في قول الله تعالى ذكره : " زيد بن أسلم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، مثل قول الرجل : " هو كافر ، هو مشرك " ، قال : لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه .
4477 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اللغو في هذا ، الحلف بالله ما كان بالألسن ، فجعله لغوا ، وهو أن يقول : " هو كافر بالله ، وهو إذا يشرك بالله ، وهو يدعو مع الله إلها " ، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في " سورة البقرة " : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، قال : بما كان في قلوبكم صدقا ، واخذك به . فإن لم يكن في قلبك صدق لم يؤاخذك به ، وإن أثمت .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان ، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده ، وذلك يكون منها على وجهين :
أحدهما : على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثما ، وبفعله مستحقا المؤاخذة من الله عليها . وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله ، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله ، قاصدا قيل الكذب ، وذاكرا أنه قد فعل ما حلف [ ص: 455 ] عليه أنه لم يفعله ، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل . فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة ، إن شاء واخذه به في الآخرة ، وإن شاء عفا عنه بتفضله ، ولا كفارة عليه فيها في العاجل ، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها . وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها . والحالف الكاذب في يمينه ، ليست يمينه مما يتبدأ فيه الحنث ، فتلزم فيه الكفارة .
والوجه الآخر منهما : على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك . فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه . فإذا حنث فيه بعد حلفه ، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارة لذنبه .