لما كان سياق الكلام جاريا في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين إلى قوله تعالى عذابا أليما ، وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة ، وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلا ، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها ، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلا لا يقبل الشك ولا الإخفاء ، وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة ، فعطف قوله وكل إنسان إلخ على قوله وكل شيء فصلناه تفصيلا عطف خاص على عام ; للاهتمام بهذا الخاص .
والمعنى : وكل إنسان قدرنا له عمله في عملنا فهو عامل به لا محالة ، وهذا من أحوال الدنيا .
والطائر : أطلق على السهم ، أو القرطاس الذي يعين فيه صاحب الحظ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر ، يقال : اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا ، ومنه قول أم العلاء الأنصارية في حديث الهجرة : اقتسم الأنصار المهاجرين فطار لنا . . . وذكرت قصة وفاته . عثمان بن مظعون
[ ص: 47 ] وأصل إطلاق الطائر على هذا : إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع ، فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذه ، وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران ; لأنهم يجعلون للسهم ريشا في قذذه ; ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس ، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما .
وإما من زجر الطير لمعرفة بخت أو شؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه ، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم ، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر .
والإلزام : جعله لازما له ، أي غير مفارق ، يقال : لزمه إذا لم يفارقه .
وقوله ( في عنقه ) يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب ، أي عمله لازم له لزوم القلادة ، ومنه قول العرب تقلدها طوق الحمامة ، فلذلك خصت بالعنق ; لأن القلادة توضع في عنق المرأة ، ومنه قول الأعشى :
والشعر قلدته سلامة ذا فائش والشيء حيثما جعلا
ويحتمل أن يكون تمثيلا لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعينون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء ، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة ، كما قال بشار :كتب الحب لها في عنقي موضع الخاتم من أهل الذمم
[ ص: 48 ] والمعنى على الجميع أن كل إنسان يعامل بعمله من خير أو شر لا ينقص له منه شيء ، وهذا غير كتابة الأعمال التي ستذكر عقب هذا بقوله ونخرج له يوم القيامة كتابا . . . الآية .
وعطف جملة ( ونخرج له يوم القيامة كتابا ) إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة لا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها .
وقرأ الجمهور ( ونخرج ) بنون العظمة وبكسر الراء ، وقرأه يعقوب بياء الغيبة ، وكسر الراء ، والضمير عائد إلى الله المعلوم من المقام ، وهو التفات ، وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة في أوله مبنيا للنائب على أن له نائب فاعل و كتابا منصوبا على المفعولية ، وذلك جائز .
والكتاب : ما فيه ذكر الأعمال وإحصاؤها ، والنشر : ضد الطي .
ومعنى يلقاه يجده ، استعير فعل يلقى لمعنى يجد ; تشبيها لوجدان النسبة بلقاء الشخص ، والنشر كناية عن سرعة اطلاعه على جميع ما عمله بحيث إن الكتاب يحضر من قبل وصول صاحبه مفتوحا للمطالعة .
وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ( يلقاه ) بضم الياء ، وتشديد القاف مبنيا للمجهول على أنه مضاعف لقي تضعيفا للتعدية ، أي يجعله لاقيا كقوله ولقاهم نضرة وسرورا ، وأسند إلى المفعول بمعنى يجعله لاقيا ، كقوله وما يلقاها إلا الذين صبروا وقوله ويلقون فيها تحية وسلاما .
ونشر الكتاب إظهاره ليقرأ ، قال تعالى وإذا الصحف نشرت .
وجملة اقرأ كتابك مقول قول محذوف دل عليه السياق .
والأمر في اقرأ مستعمل في التسخير ، ومكنى به عن الإعذار لهم ، والاحتجاج عليهم كما دل عليه قوله كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، ولذلك كان معرفة تلك الأعمال من ذلك الكتاب حاصلة للقارئ .
[ ص: 49 ] والقراءة مستعملة في معرفة ما أثبت للإنسان من الأعمال أو في فهم النقوش المخصوصة إن كانت هنالك نقوش وهي خوارق عادات .
والباء في قوله بنفسك مزيدة للتأكيد داخلة على فاعل كفى كما تقدم في قوله وكفى بالله شهيدا في سورة النساء .
وانتصب حسيبا على التمييز لنسبة الكفاية إلى النفس ، أي من جهة حسيب ، والحسيب : فعيل بمعنى فاعل مثل ضريب القداح بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، أي الحاسب والضابط ، وكثر ورود التمييز بعد ( كفى بكذا ) ، وعدي ب ( على ) لتضمينه معنى الشهيد ، وماصدق النفس هو الإنسان في قوله وكل إنسان ألزمناه طائره فلذلك جاء حسيبا بصيغة التذكير .