إن قرآن الفجر كان مشهودا أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر
كان ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر ، إنما أبلغه النبيء أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين ، وأيضا فقد عينت الآية أوقاتا للصلوات بعد تقرر فرضها ، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء ; جمعا للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذ المبتدأ بقوله تعالى شرع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه الآيات ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبيء صلى الله عليه وسلم بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بأن أمره بأعظم عبادة يعبده بها ، وبالزيادة منها طلبا لازدياد النعمة عليه ، كما دل عليه قوله في آخر الآية عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .
فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم ، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم ، وقد علم المسلمون ذلك ، وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عند اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال القوي ، كمن سأله : ألنا هذه أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد . خطاب النبيء بتشريع تدخل فيه أمته
[ ص: 182 ] والإقامة : مجاز في المواظبة والإدامة ، وقد تقدم عند قوله تعالى ويقيمون الصلاة في أول سورة البقرة .
واللام في لدلوك الشمس لام التوقيت ، وهي بمعنى ( عند ) .
والدلوك : من أحوال الشمس ، فورد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضي في طريق مسيرها اليومي ، وورد بمعنى : ميل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس ، وهو وقت العصر ، وورد بمعنى غروبها ; فصار لفظ الدلوك مشتركا في المعاني الثلاثة .
والغسق : الظلمة ، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق ، وذلك وقت العشاء ، ويسمى العتمة ، أي الظلمة .
وقد جمعت الآية أوقاتا أربعة ، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه ، والقرينة واضحة ، وفهم من حرف ( إلى ) الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات ; لأن الغاية كانت لفعل أقم الصلاة فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة ، وليس المراد غاية لصلاة واحدة جعل وقتها متسعا ; لأن هذا فهم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله لدلوك الشمس من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور ; لأنه الواجب أو الأكمل ، وقد زاد عمل النبيء صلى الله عليه وسلم بيانا للآية .
وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى ، وفيه خلاف بين الفقهاء ، فكلمة دلوك لا تعادلها كلمة أخرى .
وقد ثبت في حديث في الموطأ : أن أول الوقت هو المقصود ، وثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري مرسلا في الموطأ وموصولا عن عطاء بن يسار عند أنس بن مالك وغيره : ابن عبد البر أن للصبح وقتا له ابتداء ونهاية ، وهو أيضا ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عدا المغرب فقد سكت عنها الأثر ; فترددت [ ص: 183 ] أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي ، وبين قياس وقتها على أوقات غيرها ، وهذا الثاني أرجح ; لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي ، وهي تناسب تيسير الدين .
وجعل الغسق نهاية للأوقات ، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشأن المتعارف في الغاية بحرف ( إلى ) فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة ، وهذا جمع بديع .
ثم عطف قرآن الفجر على الصلاة ، والتقدير : وأقم قرآن الفجر ، أي الصلاة به ، كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ; ليعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآنا كقوله فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، أي صلوا به نافلة الليل .
وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها ; لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها ، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضا .
ويجوز أن يكون عطف وقرآن الفجر عطف جملة والكلام على الإغراء ، والتقدير : والزم قرآن الفجر ، قاله فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم . الزجاج ،
وهذا مجمل في كيفية الصلوات ، ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل .
وجملة إن قرآن الفجر كان مشهودا استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بأن صلاة الفجر مشهودة ، أي محضورة ، وفسر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار ، كما ورد في الحديث : وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ، وذلك زيادة في [ ص: 184 ] فضلها وبركتها ، وأيضا فهي يحضرها أكثر المصلين ; لأن وقتها وقت النشاط ، وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذ .