فجملة وقتلت عطف على جملة ( ولقد مننا عليك مرة أخرى ) لأن المذكور في جملة ( وقتلت نفسا ) منة أخرى ثالثة .
[ ص: 220 ] وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنة ، حيث افتتحت القصة بذكر جناية عظيمة التبعة ، وهي قتل النفس ليكون لقوله فنجيناك موقع عظيم من المنة ، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثله . وهذه النفس هي نفس القبطي من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة بموسى لينصره فوكز موسى القبطي فقضى عليه كما قص ذلك في سورة القصص . فاستغاث الإسرائيلي
والغم : الحزن . والمعني به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه ، لأن فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين ، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهين بينهم . ويظهر أن فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك .
والفتون : مصدر فتن ، كالخروج ، والثبور ، والشكور ، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو فتناك ، وتنكيره للتعظيم ، أي فتونا قويا عظيما .
والفتون كالفتنة : هو اضطراب حال المرء في مدة من حياته . وتقدم عند قوله تعالى ( والفتنة أشد من القتل ) في سورة " البقرة " .
ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر ، فيكون في الشر وفي الخير . وأما الفتنة فلعلها خاصة باختبار المضر . ويظهر أن التنوين في فتونا للتقليل ، وتكون جملة ( وفتناك فتونا ) كالاستدراك على قوله ( فنجيناك من الغم ) ، أي نجيناك وحصل لك خوف ، كقوله ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب ) فذلك الفتون .
والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب ) [ ص: 221 ] إلى قوله ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين .
وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطي الذي قتله موسى ، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنهم لم ترد إليهم دعوة إلهية حينئذ ، فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلى موسى بـ الخوف والغربة عتابا له على إقدامه على قتل النفس ، كما قال في الآية الأخرى ( قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له ) .
وعباد الله الذين أراد بهم خيرا ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كل حالة كمالا يكسبونه ، ويسمى مثل ذلك بالابتلاء ، فكان من فتون موسى بقضية القبطي أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئة ضمير لتحمل المصاعب ، ويتلقى التهذيب من صهره الرسول شعيب - عليه السلام - . ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله ( فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ) ، فبين له كيف كانت عاقبة الفتون . أو يكون الفتون مشتركا بين محمود العاقبة وضده مثل الابتلاء في قوله ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات ) ، أي واختبرناك اختبارا . والاختبار : تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر ، ولهذا اختير هنا دون الفتنة .
وأهل مدين : قوم شعيب ، ومدين : اسم أحد أبناء إبراهيم - عليه السلام - سكنت ذريته في موطن يسمى الأيكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة ، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علما للمكان فمن ثم أضيف إليه أهل . وقد تقدم في سورة " الأعراف " .
[ ص: 222 ] ومعنى ( جئت ) حضرت لدينا . وهو حضوره بالواد المقدس لتلقي الوحي . و ( على ) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن ؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه .
والقدر : تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة ، فيكون غير ملائم أو في ملاءمته خلل ، قال النابغة :
فريع قلبي وكانت نظرة عرضت يوما وتوفيق أقدار لأقدار
أي موافقة ما كنت أرغبه .
فقوله ( ثم جئت على قدر ) يفيد أن ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدرا من الله تقديرا مناسبا متدرجا ، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدرها الله وحددها تحديدا منظما لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله ، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير .
فهذا تقدير خاص ، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلمه الله منه . وليس المراد القدر العام الذي قدره الله لتكوين جميع الكائنات ، فإن ذلك لا يشعر بمزية لموسى - عليه السلام - .
وقد انتبه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح : عمر بن عبد العزيز
أتى الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة ، وذلك جملة ( واصطنعتك لنفسي ) الذي هو بمنزلة رد العجز على الصدر على قوله [ ص: 223 ] ( ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك ) الآية ، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) ومن قوله ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) .
والاصطناع : صنع الشيء باعتناء : واللام للأجل ، أي لأجل نفسي . والكلام تمثيل لهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئا لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه .