nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282nindex.php?page=treesubj&link=28973_17908_32400يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل .
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف ، ووضح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر ، ثم عطف عليه
[ ص: 98 ] التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد ، ثلث ببيان التوثقات المالية من الإشهاد ، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان ، وإن تحديد التوثق في المعاملات من أعظم وسائل بث الثقة بين المتعاملين ، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التمول .
والجملة استئناف ابتدائي ، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرماء أهل الربا .
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأن المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطر إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ، ولأن المترفه قد ينضب المال من بين يديه وله قبل به بعد حين ، فإذا لم يتداين اختل نظام ماله ، فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رءوس أموالهم إبطال للتداين كله ، وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له وهو
nindex.php?page=treesubj&link=28403التوثق له بالكتابة والإشهاد .
والخطاب موجه للمؤمنين أي لمجموعهم ، والمقصود منه خصوص المتداينين ، والأخص بالخطاب هو المدين لأن من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله ، فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن ، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القصص عن
موسى وشعيب ، إذ استأجر
شعيب موسى ، فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال
موسى nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=28والله على ما نقول وكيل فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسأله
شعيب ذلك .
والتداين تفاعل ، وأطلق هنا مع أن الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المسلف ، لأنك تقول دان منه فدانه ، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين وهم مجموع الأمة ، لأن في المجموع دائنا ومدينا فصار المجموع مشتملا على جانبين ، ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تداينت من زيد .
وزيادة قيد " بدين " إما لمجرد الإطناب ، كما يقولون : رأيته بعيني ولمسته بيدي ، وإما ليكون معادا للضمير في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فاكتبوه ) ولولا ذكره لقال : فاكتبوا الدين فلم . يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال ، قاله في الكشاف .
[ ص: 99 ] وقال
الطيبي عن صاحب الفرائد : يمكن أن يظن استعمال التداين مجازا في الوعد كقول رؤبة :
داينت أروى والديون تقضى فمطلت بعضا وأدت بعضا
فذكر قوله : ( بدين ) دفعا لتوهم المجاز ، والدين في كلام العرب العوض المؤخر . قال شاعرهم :
وعدتنا بدرهمينا طلاء وشواء معجلا غير دين
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282إلى أجل مسمى طلب تعيين الآجال للديون لئلا يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات ، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل .
والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفا لعمل غير مطلوب فيه المبادرة ، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها .
والأجل اسم وليس بمصدر ، والمصدر التأجيل ، وهو إعطاء الأجل ، ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير ، وقد تقدم في قوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=235حتى يبلغ الكتاب أجله .
والمسمى حقيقته المميز باسم يميزه عما يشابهه في جنسه أو نوعه ، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس ، والمسمى هنا مستعار للمعين المحدود ، وإنما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس ، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين ، إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلا بذلك ، فأطلق عليه لفظ التسمية ، ومنه قول الفقهاء : المهر المسمى ، فالمعنى أجل معين بنهايته ، والدين لا يكون إلا إلى أجل ، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف ، هو وصف أجل مسمى إدماجا للأمر بتعيين الأجل .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282بدين إلى أجل مسمى يعم كل دين : من قرض أو من بيع أو غير ذلك ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنها نزلت في السلم - يعني بيع الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجل - وكان السلم من معاملات أهل
المدينة ، ومعنى كلامه أن بيع السلم سبب نزول الآية ، ومن المقرر في الأصول أن السبب الخاص لا يخصص العموم .
[ ص: 100 ] والأمر في ( فاكتبوه ) قيل : للاستحباب ، وهو قول الجمهور
ومالك وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأحمد ، وعليه فيكون قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فإن أمن بعضكم بعضا تكميلا لمعنى الاستحباب . وقيل : الأمر للوجوب ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وعطاء والنخعي ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ، وهو قول
داود ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، ولعل القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282واستشهدوا شهيدين من رجالكم قائلون بوجوب الكتابة ، وعليه فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فإن أمن بعضكم بعضا تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأن الأمر للتكرار ، لاسيما مع التعليق بالشرط ، وسماه الأقدمون في عباراتهم نسخا .
والقصد من الأمر بالكتابة التوثق للحقوق وقطع أسباب الخصومات ، وتنظيم معاملات الأمة ، وإمكان الاطلاع على العقود الفاسدة ، والأرجح أن الأمر للوجوب فإنه الأصل في الأمر ، وقد تأكد بهذه المؤكدات ، وأن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فإن أمن بعضكم بعضا الآية . رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي - فإن حالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام - لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى ، فأوجب عليهم التوثيق في مقامات المشاحنة ، لئلا يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة ، ويظهر لي أن في الوجوب نفيا للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعد المدين ذلك من سوء الظن به ، فإن في القوانين معذرة للمتعاملين .
وقال
ابن عطية : الصحيح عدم الوجوب لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع ، فكيف يجب عليه أن يكتبه ، وإنما هو ندب للاحتياط ، وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التبرع .
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضا ، كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فاكتبوه يشمل حالتين : الأولى : حالة كتابة المتداينين بخطيهما ، أو خط أحدهما ويسلمه للآخر إذا كانا يحسنان الكتابة معا ، لأن جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر .
[ ص: 101 ] والثانية : حالة كتابة ثالث يتوسط بينهما ، فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما ، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية ، فكانت الأمية بينهم فاشية ، وإنما كانت الكتابة في
الأنبار والحيرة وبعض جهات
اليمن وفيمن يتعلمها قليلا من
مكة والمدينة .
nindex.php?page=treesubj&link=28973وقوله : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليكتب بينكم كاتب بالعدل أمر للمتداينين بأن يوسطوا كاتبا يكتب بينهم لأن غالب حالهم جهل الكتابة .
فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب ، والعرب تعمد إلى المقصود فتنزله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله ؛ كقولهم في الأمر : ليكن ولدك مهذبا ، وفي النهي : لا تنس ما أوصيتك ، ولا أعرفنك تفعل كذا .
فمتعلق فعل الطلب هو ظرف ( بينكم ) وليس هذا أمرا للكاتب ، وأما أمر الكاتب فهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب .
وقوله : " بالعدل " ، أي : بالحق ، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال : رجل عدل ، لأن وجود الباء يصرف عن ذلك ، ونظيره قوله الآتي :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فليملل وليه بالعدل .
ولذلك قصر المفسرون قوله : ( فاكتبوه ) على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنه الغالب ، ولتعقيبه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليكتب بينكم كاتب بالعدل فإنه كالبيان لكيفية ( فاكتبوه ) . على أن كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه .
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط ، فإن استكتاب الكاتب إنما ينفع بقراءة خطه .
nindex.php?page=treesubj&link=28973وقوله : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ولا يأب كاتب أن يكتب نهي لمن تطلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دعي إليها ، فهذا حكم آخر وليس تأكيدا لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليكتب بينكم كاتب بالعدل لما علمت آنفا من كون ذلك حكما موجها للمتداينين ، وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم ، فالذي يدعى لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع ، وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين ، وهو قول
الربيع ومجاهد وعطاء [ ص: 102 ] nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، وقيل : إنما تجب الإجابة وجوبا عينيا إذا لم يكن في الموضع إلا كاتب واحد ، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول
الحسن ، ومعناه أنه موكول إلى ديانتهم لأنهم إذا تمالئوا على الامتناع أثموا جميعا ، ولو قيل : إنه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين ، وإنه يتعين بتعيين طالب التوثق أحدهم لكان وجيها ، والأحق بطلب التوثق هو المستقرض كما تقدم آنفا .
وقيل : إنما يجب على الكاتب في حال فراغه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، وقيل : هو منسوخ بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ولا يضار كاتب ولا شهيد وهو قول
الضحاك ، وروي عن
عطاء ، وفي هذا نظر لأن الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلا في أحوال نادرة كبعد مكان المتداينين من مكان الكاتب ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج وابن زيد أنه منسوخ بقوله تعالى بعد هذا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وسيأتي لنا إبطال ذلك .
وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=24269_6089الأجر على الكتابة بين المتداينين ، لأنها إن كانت واجبة فلا أجر عليها ، وإلا فالأجر جائز .
ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد ، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ولا يضار كاتب ولا شهيد .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282كما علمه الله أي : كتابة تشابه الذي علمه الله أن يكتبها والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقارنة ، فهي مثل قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=137فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فالكاف في موضع المفعول المطلق ؛ لأنها صفة لمصدر محذوف و ( ما ) موصولة .
ومعنى " ما علمه الله " أنه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب ، لأن الله ما علم إلا الحق وهو المستقر في فطرة الإنسان ، وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدلون ويغيرون وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى ، وهذا يشير إليه قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341355واستفت نفسك وإن أفتاك الناس .
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوض بمعوضه ، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة ، بأن ينفع الناس بها شكرا على تيسير الله له
[ ص: 103 ] أسباب علمها ، وإنما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلس ، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وأحسن كما أحسن الله إليك وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198واذكروه كما هداكم .
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فعل أن يكتب بالمكتوب ، و " ما " على هذا الوجه مصدرية ، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله : " أن يكتب " وجوز صاحب الكشاف تعليقه بقوله " فليكتب " فهو وجه في تفسير الآية .
وقوله : " فليكتب " تفريع على قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ولا يأب كاتب وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله : ( فاكتبوه ) فهو يفيد تأكيد الأمر وتأكيد النهي أيضا ، وإنما أعيد ليرتب عليه قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليملل الذي عليه الحق لبعد الأمر الأول بما وليه ، ومثله قوله تعالى : " اتخذوه " بعد قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=148واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا الآية .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليملل الذي عليه الحق أمل وأملى لغتان : فالأولى لغة
أهل الحجاز وبني أسد والثانية لغة
تميم ، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليملل الذي عليه الحق وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قالوا : والأصل هو أملل ثم أبدلت اللام ياء لأنها أخف ، أي عكس ما فعلوا في قولهم : تقضى البازي ، إذ أصله : تقضض .
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاما على سامعه ليكتبه عنه ، هكذا فسره في اللسان والقاموس ، وهو قصور في التفسير أحسب أنه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة ، وإلا فإن قوله تعالى في سورة الفرقان
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5فهي تملى عليه بكرة وأصيلا تشهد بأن الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان ، ولغرض الحفظ كما يقال مل المؤدب على الصبي للحفظ ، وهي طريقة تحفيظ العميان ، فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلام ليكتب عنه أو ليروى أو ليحفظ ، و ( الحق ) هنا : ما حق أي ثبت للدائن .
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإن منهم من يكتبون في شروط الحبس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلا إذا كان قد فوض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة .
[ ص: 104 ] والضميران في قوله : " وليتق " وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ولا يبخس منه يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق ؛ لأنه أقرب مذكور من الضميرين ، أي : لا ينقص رب الدين شيئا حين الإملاء ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقر بجميع الدين ولا يغبن الدائن ، وعندي أن هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية ، فلو أخفى المدين شيئا أو غبن لأنكر عليه رب الدين لأن الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليكتب بينكم ويحتمل أن يعود الضميران إلى ( كاتب ) بقرينة أن هذا النهي أشد تعلقا بالكاتب ، فإنه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه .
والضمير في قوله ( منه ) عائد إلى الحق وهو حق لكلا المتداينين ، فإذا بخس منه شيئا أضر بأحدهما لا محالة ، وهذا إيجاز بديع .
nindex.php?page=treesubj&link=28905والبخس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنه أخص من النقص ، فهو نقص بإخفاء ، وأقرب الألفاظ إلى معناه الغبن ، قال
ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف : البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهيد ، أو المخادعة عن القيمة ، أو الاحتيال في التزيد في الكيل ، أو النقصان منه ، أي : عن غفلة صاحب الحق ، وهذا هو المناسب في معنى الآية ؛ لأن المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه ، ولذلك نهي الشاهد أو المدين أو الدائن ، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=85ولا تبخسوا الناس أشياءهم .
nindex.php?page=treesubj&link=28973وقوله : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا السفيه هو مختل العقل ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=142سيقول السفهاء من الناس .
والضعيف الصغير ، وقد تقدم عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=266وله ذرية ضعفاء .
والذي
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282لا يستطيع أن يمل هو العاجز كمن به بكم وعمى وصمم جميعا .
ووجه تأكيد الضمير المستتر في فعل " يمل " بالضمير البارز هو التمهيد لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فليملل وليه لئلا يتوهم الناس أن عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه ، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة ، والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل كالأب والوصي وعرفاء القبيلة ، وفي حديث
[ ص: 105 ] وفد
هوازن : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341356ليرفع إلي عرفاؤكم أمركم وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القبلية .
ومعنى " بالعدل " أي بالحق ، وهذا دليل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=26839_15694إقرار الوصي والمقدم في حق المولى عليه ماض إذا ظهر سببه ، وإنما لم يعمل به المتأخرون من الفقهاء سدا للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282nindex.php?page=treesubj&link=28973_17908_32400يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلَيُّهُ بِالْعَدْلِ .
لَمَّا اهْتَمَّ الْقُرْآنُ بِنِظَامِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ فَابْتَدَأَ بِمَا بِهِ قِوَامُ عَامَّتِهِمْ مِنْ مُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ ، وَوَضُحَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ
[ ص: 98 ] التَّحْذِيرَ مِنْ مُضَايَقَةِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْمُوَاسَاةِ مُضَايَقَةَ الرِّبَا مَعَ مَا فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ مِنَ الْمَفَاسِدِ ، ثَلَّثَ بِبَيَانِ التَّوَثُّقَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنَ الْإِشْهَادِ ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الرَّهْنُ وَالِائْتِمَانُ ، وَإِنَّ تَحْدِيدَ التَّوَثُّقِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ بَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ تَكْثِيرُ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَدَوْرَانِ دُولَابِ التَّمَوُّلِ .
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ ظَاهِرَةٌ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى غُرَمَاءَ أَهْلِ الرِّبَا .
وَالتَّدَايُنُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَاتِ لِأَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى تَنْمِيَةِ الْمَالِ قَدْ يَعُوزُهُ الْمَالُ فَيَضْطَرُّ إِلَى التَّدَايُنِ لِيُظْهِرَ مَوَاهِبَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الزِّرَاعَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُتَرَفِّهَ قَدْ يَنْضُبُ الْمَالُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَهُ قِبَلٌ بِهِ بَعْدَ حِينٍ ، فَإِذَا لَمْ يَتَدَايَنِ اخْتَلَّ نِظَامُ مَالِهِ ، فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ بَقَاءَ التَّدَايُنِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ كَيْلَا يَظُنُّوا أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا وَالرُّجُوعَ بِالْمُتَعَامِلِينَ إِلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ إِبْطَالٌ لِلتَّدَايُنِ كُلِّهِ ، وَأَفَادَ ذَلِكَ التَّشْرِيعَ بِوَضْعِهِ فِي تَشْرِيعٍ آخَرَ مُكَمِّلٍ لَهُ وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28403التَّوَثُّقُ لَهُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ .
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ لِمَجْمُوعِهِمْ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ خُصُوصُ الْمُتَدَايِنِينَ ، وَالْأَخَصُّ بِالْخِطَابِ هُوَ الْمَدِينُ لِأَنَّ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ دَائِنَهُ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ عَلَى مَالِهِ ، فَعَلَى الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَطْلُبَ الْكِتَابَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهَا الدَّائِنُ ، وَيُؤْخَذْ هَذَا مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَنْ
مُوسَى وَشُعَيْبٍ ، إِذِ اسْتَأْجَرَ
شُعَيْبٌ مُوسَى ، فَلَمَّا تَرَاوَضَا عَلَى الْإِجَارَةِ وَتَعْيِينِ أَجَلِهَا قَالَ
مُوسَى nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=28وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ فَذَلِكَ إِشْهَادٌ عَلَى نَفْسِهِ لِمُؤَاجِرِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُ
شُعَيْبٌ ذَلِكَ .
وَالتَّدَايُنُ تَفَاعَلٌ ، وَأُطْلِقَ هُنَا مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ صَادِرٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جِهَةُ الْمُسَلِّفِ ، لِأَنَّكَ تَقُولُ دَانَ مِنْهُ فَدَانَهُ ، فَالْمُفَاعَلَةُ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ ، لِأَنَّ فِي الْمَجْمُوعِ دَائِنًا وَمَدِينًا فَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَانِبَيْنِ ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُفَاعَلَةَ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا كَمَا تَقُولُ تَدَايَنْتُ مِنْ زِيدٍ .
وَزِيَادَةُ قَيْدِ " بِدَيْنٍ " إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْإِطْنَابِ ، كَمَا يَقُولُونَ : رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلَمْسَتُهُ بِيَدِي ، وَإِمَّا لِيَكُونَ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَاكْتُبُوهُ ) وَلَوْلَا ذِكْرُهُ لَقَالَ : فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ فَلَمْ . يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الْحَسَنَ ، وَلِأَنَّهُ أَبْيَنُ لِتَنْوِيعِ الدَّيْنِ إِلَى مُؤَجَّلٍ وَحَالٍّ ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ .
[ ص: 99 ] وَقَالَ
الطِّيبِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْفَرَائِدِ : يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ اسْتِعْمَالُ التَّدَايُنِ مَجَازًا فِي الْوَعْدِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ :
دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا
فَذَكَرَ قَوْلَهُ : ( بِدَيْنٍ ) دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الْمَجَازِ ، وَالدَّيْنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِوَضُ الْمُؤَخَّرُ . قَالَ شَاعِرُهُمْ :
وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى طَلَبُ تَعْيِينِ الْآجَالِ لِلدُّيُونِ لِئَلَّا يَقَعُوا فِي الْخُصُومَاتِ وَالتَّدَاعِي فِي الْمُرَادَاتِ ، فَأُدْمِجَ تَشْرِيعُ التَّأْجِيلِ فِي أَثْنَاءِ تَشْرِيعِ التَّسْجِيلِ .
وَالْأَجَلُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَحْدُودَةُ النِّهَايَةِ مَجْعُولَةٌ ظَرْفًا لِعَمَلٍ غَيْرِ مَطْلُوبٍ فِيهِ الْمُبَادَرَةُ ، لِرَغْبَةِ تَمَامِ ذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا .
وَالْأَجَلُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ ، وَالْمَصْدَرُ التَّأْجِيلُ ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْأَجَلِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّوْسِعَةِ فِي الْعَمَلِ أُطْلِقَ الْأَجَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=235حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ .
وَالْمُسَمَّى حَقِيقَتُهُ الْمُمَيَّزُ بِاسْمٍ يُمَيِّزُهُ عَمَّا يُشَابِهُهُ فِي جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ ، فَمِنْهُ أَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ ، وَالْمُسَمَّى هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُعَيَّنِ الْمَحْدُودِ ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ تَحْدِيدُهُ بِنِهَايَةٍ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَ النَّاسِ ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالتَّحْدِيدِ بِوَضْعِ الِاسْمِ بِجَامِعِ التَّعْيِينِ ، إِذْ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْ أَمْثَالِهِ إِلَّا بِذَلِكَ ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّسْمِيَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ : الْمَهْرُ الْمُسَمَّى ، فَالْمَعْنَى أَجَلٌ مُعَيَّنٌ بِنِهَايَتِهِ ، وَالدَّيْنُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ بِهَذَا الْوَصْفِ ، هُوَ وَصْفُ أَجَلٍ مُسَمًّى إِدْمَاجًا لِلْأَمْرِ بِتَعْيِينِ الْأَجَلِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعُمُّ كُلَّ دَيْنٍ : مِنْ قَرْضٍ أَوْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ - يَعْنِي بَيْعَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ إِذَا كَانَ ذَا ذِمَّةٍ إِلَى أَجَلٍ - وَكَانَ السَّلَمُ مِنْ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ .
[ ص: 100 ] وَالْأَمْرُ فِي ( فَاكْتُبُوهُ ) قِيلَ : لِلِاسْتِحْبَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا تَكْمِيلًا لِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ . وَقِيلَ : الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنُ جُرَيْجٍ nindex.php?page=showalam&ids=14577وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ
دَاوُدَ ، وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ ، وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ الْآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ قَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ أَزْمِنَةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْرَارِ ، لَاسِيَّمَا مَعَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ، وَسَمَّاهُ الْأَقْدَمُونَ فِي عِبَارَاتِهِمْ نَسْخًا .
وَالْقَصْدُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ التَّوَثُّقُ لِلْحُقُوقِ وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْخُصُومَاتِ ، وَتَنْظِيمُ مُعَامَلَاتِ الْأُمَّةِ ، وَإِمْكَانُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ ، وَقَدْ تَأَكَّدَ بِهَذِهِ الْمُؤَكِّدَاتِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الْآيَةَ . رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الِائْتِمَانِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنَ كَمَا سَيَأْتِي - فَإِنَّ حَالَةَ الِائْتِمَانِ حَالَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ تَطَرُّقِ التَّنَاكُرِ وَالْخِصَامِ - لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْأُمَّةِ قَطْعَ أَسْبَابِ التَّهَارُجِ وَالْفَوْضَى ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّوْثِيقَ فِي مَقَامَاتِ الْمُشَاحَنَةِ ، لِئَلَّا يَتَسَاهَلُوا ابْتِدَاءً ثُمَّ يُفْضُوا إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْعَاقِبَةِ ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي الْوُجُوبِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنِ الدَّائِنِ إِذَا طَلَبَ مِنْ مَدِينِهِ الْكَتْبَ حَتَّى لَا يَعُدَّ الْمَدِينُ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ ، فَإِنَّ فِي الْقَوَانِينِ مَعْذِرَةً لِلْمُتَعَامِلَيْنِ .
وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : الصَّحِيحُ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ لِلْمَرْءَ أَنْ يَهَبَ هَذَا الْحَقَّ وَيَتْرُكَهُ بِإِجْمَاعٍ ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ يَرُوجُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَلَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مَقَامَ التَّوَثُّقِ غَيْرُ مُقَامِ التَّبَرُّعِ .
وَمَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَنْبِيهُ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ حَتَّى لَا يَتَسَاهَلُوا ثُمَّ يَنْدَمُوا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِبْطَالَ ائْتِمَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، كَمَا أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا دَفْعَ مُوجِدَةِ الْغَرِيمِ مِنْ تَوَثُّقِ دَائِنِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَقَاصِدِهَا قَطْعُ أَسْبَابِ الْخِصَامِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَاكْتُبُوهُ يَشْمَلُ حَالَتَيْنِ : الْأُولَى : حَالَةُ كِتَابَةِ الْمُتَدَايِنَيْنِ بِخَطَّيْهِمَا ، أَوْ خَطِّ أَحَدِهِمَا وَيُسَلِّمُهُ لِلْآخَرِ إِذَا كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ مَعًا ، لِأَنَّ جَهْلَ أَحَدِهِمَا بِهَا يَنْفِي ثِقَتَهُ بِكِتَابَةِ الْآخَرِ .
[ ص: 101 ] وَالثَّانِيَةُ : حَالَةُ كِتَابَةِ ثَالِثٍ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا ، فَيَكْتُبُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ وَيُسَلِّمُهُ بِيَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ إِذَا كَانَا لَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ أَوْ أَحَدُهُمَا ، وَهَذِهِ غَالِبُ أَحْوَالِ الْعَرَبِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ، فَكَانَتِ الْأُمِّيَّةُ بَيْنَهُمْ فَاشِيَّةً ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي
الْأَنْبَارِ وَالْحِيرَةِ وَبَعْضِ جِهَاتِ
الْيَمَنِ وَفِيمَنْ يَتَعَلَّمُهَا قَلِيلًا مِنْ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28973وَقَوْلُهُ : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِأَنْ يُوَسِّطُوا كَاتِبًا يَكْتُبُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ غَالِبَ حَالِهِمْ جَهْلُ الْكِتَابَةِ .
فِعْلُ الْأَمْرِ بِهِ إِلَى الْكَاتِبِ مُبَالَغَةٌ فِي أَمْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ بِالِاسْتِكْتَابِ ، وَالْعَرَبُ تَعْمِدُ إِلَى الْمَقْصُودِ فَتُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ مُبَالَغَةً فِي حُصُولِهِ ؛ كَقَوْلِهِمْ فِي الْأَمْرِ : لِيَكُنْ وَلَدُكَ مُهَذَّبًا ، وَفِي النَّهْيِ : لَا تَنْسَ مَا أَوْصَيْتُكَ ، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا .
فَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ الطَّلَبِ هُوَ ظَرْفُ ( بَيْنَكُمْ ) وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا لِلْكَاتِبِ ، وَأَمَّا أَمْرُ الْكَاتِبِ فَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ .
وَقَوْلُهُ : " بِالْعَدْلِ " ، أَيْ : بِالْحَقِّ ، وَلَيْسَ الْعَدْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدَالَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الشَّاهِدُ فَيُقَالُ : رَجُلٌ عَدْلٌ ، لِأَنَّ وُجُودَ الْبَاءِ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ الْآتِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ .
وَلِذَلِكَ قَصَرَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ : ( فَاكْتُبُوهُ ) عَلَى أَنْ يَكْتُبَهُ كَاتِبٌ غَيْرُ الْمُتَدَايِنَيْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ ، وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فَإِنَّهُ كَالْبَيَانِ لِكَيْفِيَّةِ ( فَاكْتُبُوهُ ) . عَلَى أَنَّ كِتَابَةَ الْمُتَعَاقِدَيْنَ إِنْ كَانَا يُحْسِنَانِهَا تُؤْخَذُ بِلَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ .
وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ حُجَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِصِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْخَطِّ ، فَإِنَّ اسْتِكْتَابَ الْكَاتِبِ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِقِرَاءَةِ خَطِّهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28973وَقَوْلُهُ : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ نَهْيٌ لِمَنْ تُطْلَبُ مِنْهُ الْكِتَابَةُ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنْهَا إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا ، فَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ حُكْمًا مُوَجَّهًا لِلْمُتَدَايِنَيْنِ ، وَهَذَا النَّهْيُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي مُقْتَضَاهُ فَقِيلَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ ، فَالَّذِي يُدْعَى لِأَنْ يَكْتُبَ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ ، وَعَلَيْهِ فَالْإِجَابَةُ لِلْكِتَابَةِ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَهُوَ قَوْلُ
الرَّبِيعِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ [ ص: 102 ] nindex.php?page=showalam&ids=16935وَالطَّبَرِيِّ وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ ، وَقِيلَ : إِنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ إِلَّا كَاتِبٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى دِيَانَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَمَالَئُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ أَثِمُوا جَمِيعًا ، وَلَوْ قِيلَ : إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَانِ الْمُتَدَايِنَيْنِ ، وَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ طَالِبِ التَّوَثُّقِ أَحَدَهُمْ لَكَانَ وَجِيهًا ، وَالْأَحَقُّ بِطَلَبِ التَّوَثُّقِ هُوَ الْمُسْتَقْرِضُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا .
وَقِيلَ : إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ ، وَقِيلَ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَهُوَ قَوْلُ
الضَّحَّاكِ ، وَرُوِيَ عَنْ
عَطَاءٍ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْحُضُورَ لِلْكِتَابَةِ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْإِضْرَارِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ نَادِرَةٍ كَبُعْدِ مَكَانِ الْمُتَدَايِنَيْنِ مِنْ مَكَانِ الْكَاتِبِ ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=13036وَابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَسَيَأْتِي لَنَا إِبْطَالُ ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=24269_6089الْأَجْرِ عَلَى الْكِتَابَةِ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا ، وَإِلَّا فَالْأَجْرُ جَائِزٌ .
وَيُلْحَقُ بِالتَّدَايُنِ جَمِيعُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا التَّوَثُّقُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ أَيْ : كِتَابَةً تُشَابِهُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَهَا وَالْمُرَادُ بِالْمُشَابَهَةِ الْمُطَابَقَةُ لَا الْمُقَارَنَةُ ، فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=137فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَ ( مَا ) مَوْصُولَةٌ .
وَمَعْنَى " مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ " أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يُجْحِفُ أَوْ يُوَارِبُ ، لِأَنَّ اللَّهَ مَا عَلَّمَ إِلَّا الْحَقَّ وَهُوَ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ النَّاسُ عَنْهُ بِالْهَوَى فَيُبَدِّلُونَ وَيُغَيِّرُونَ وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ بِالَّذِي عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341355وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِمُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِمُكَافِئِهِ وَالْعِوَضِ بِمُعَوِّضِهِ ، أَيْ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَةً تُكَافِئُ تَعْلِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ الْكِتَابَةَ ، بِأَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ بِهَا شُكْرًا عَلَى تَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ
[ ص: 103 ] أَسْبَابَ عِلْمِهَا ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الشُّكْرُ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا فِيهِ حِفْظُ الْحَقِّ وَلَا يُقَصِّرُ وَلَا يُدَلِّسُ ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّشْبِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ .
وَالْكَافُ عَلَى هَذَا إِمَّا نَائِبَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ بِهِ مَحْذُوفٍ عَلَى تَأْوِيلِ مَصْدَرِ فِعْلِ أَنْ يَكْتُبَ بِالْمَكْتُوبِ ، وَ " مَا " عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَصْدَرِيَّةٌ ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : " أَنْ يَكْتُبَ " وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ تَعْلِيقَهُ بِقَوْلِهِ " فَلْيَكْتُبْ " فَهُوَ وَجْهٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ .
وَقَوْلُهُ : " فَلْيَكْتُبْ " تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَتَكْرِيرٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : ( فَاكْتُبُوهُ ) فَهُوَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدَ النَّهْيِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِبُعْدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِمَا وَلِيَهُ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : " اتَّخَذُوهُ " بَعْدَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=148وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا الْآيَةَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمَلَّ وَأَمْلَى لُغَتَانِ : فَالْأُولَى لُغَةُ
أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ
تَمِيمٍ ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قَالُوا : وَالْأَصْلُ هُوَ أَمْلَلَ ثُمَّ أُبْدِلَتِ اللَّامُ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ ، أَيْ عَكْسُ مَا فَعَلُوا فِي قَوْلِهِمْ : تَقَضَّى الْبَازِيُّ ، إِذْ أَصْلُهُ : تَقَضَّضَ .
وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أَنْ يُلْقِيَ كَلَامًا عَلَى سَامِعِهِ لِيَكْتُبَهُ عَنْهُ ، هَكَذَا فَسَّرَهُ فِي اللِّسَانِ وَالْقَامُوسِ ، وَهُوَ قُصُورٌ فِي التَّفْسِيرِ أَحْسَبُ أَنَّهُ نَشَأَ عَنْ حَصْرِ نَظَرِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَارِدَةِ فِي غَرَضِ الْكِتَابَةِ ، وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تَشْهَدُ بِأَنَّ الْإِمْلَاءَ وَالْإِمْلَالَ يَكُونَانِ لِغَرَضِ الْكِتَابَةِ وَلِغَرَضِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ كَمَا فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ ، وَلِغَرَضِ الْحِفْظِ كَمَا يُقَالُ مَلَّ الْمُؤَدِّبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِلْحِفْظِ ، وَهِيَ طَرِيقَةُ تَحْفِيظِ الْعُمْيَانِ ، فَتَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُفَسَّرَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ بِإِلْقَاءِ كَلَامٍ لِيُكْتَبَ عَنْهُ أَوْ لِيُرْوَى أَوْ لِيُحْفَظَ ، وَ ( الْحَقُّ ) هُنَا : مَا حَقَّ أَيْ ثَبَتَ لِلدَّائِنِ .
وَفِي هَذَا الْأَمْرِ عِبْرَةٌ لِلشُّهُودِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِ الْحُبْسِ وَنَحْوِهِ مَا لَمْ يُمْلِلْهُ عَلَيْهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ إِلَى الشَّاهِدِ الْإِحَاطَةَ بِمَا فِيهِ تَوَثُّقُهُ لِحَقِّهِ أَوْ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ عَلَى السَّدَارَةِ .
[ ص: 104 ] وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ : " وَلْيَتَّقِ " وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ ، أَيْ : لَا يُنْقِصْ رَبَّ الدَّيْنِ شَيْئًا حِينَ الْإِمْلَاءِ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَهُوَ عَلَى هَذَا أَمْرٌ لِلْمَدِينِ بِأَنْ يُقِرَّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَغْبِنَ الدَّائِنَ ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ بِهَذِهِ الْوِصَايَةِ ، فَلَوْ أَخْفَى الْمَدِينُ شَيْئًا أَوْ غَبَنَ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَبُّ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يَحْضُرُهَا كِلَاهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ إِلَى ( كَاتِبٌ ) بِقَرِينَةِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالْكَاتِبِ ، فَإِنَّهُ الَّذِي قَدْ يَغْفُلُ عَنْ بَعْضِ مَا وَقَعَ إِمْلَاؤُهُ عَلَيْهِ .
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ( مِنْهُ ) عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ حَقٌّ لِكِلَا الْمُتَدَايِنَيْنِ ، فَإِذَا بَخَسَ مِنْهُ شَيْئًا أَضَرَّ بِأَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ .
nindex.php?page=treesubj&link=28905وَالْبَخْسُ فَسَرَّهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِالنَّقْصِ وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ ، فَهُوَ نَقْصٌ بِإِخْفَاءٍ ، وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إِلَى مَعْنَاهُ الْغَبْنُ ، قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ ، أَوِ الْمُخَادَعَةُ عَنِ الْقِيمَةِ ، أَوِ الِاحْتِيَالُ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ ، أَوِ النُّقْصَانُ مِنْهُ ، أَيْ : عَنْ غَفْلَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ الشَّاهِدُ أَوِ الْمَدِينُ أَوِ الدَّائِنُ ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=85وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ .
nindex.php?page=treesubj&link=28973وَقَوْلُهُ : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا السَّفِيهُ هُوَ مُخْتَلُّ الْعَقْلِ ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=142سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ .
وَالضَّعِيفُ الصَّغِيرُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=266وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ .
وَالَّذِي
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْعَاجِزُ كَمَنْ بِهِ بَكَمٌ وَعَمًى وَصَمَمٌ جَمِيعًا .
وَوَجْهُ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ " يُمِلَّ " بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ عَجْزَهُ يُسْقِطُ عَنْهُ وَاجِبَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِمَا يَسْتَدِينُهُ ، وَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفِي صَدْرِهِ كُبَرَاءَ الْقَرَابَةِ ، وَالْوَلِيُّ مَنْ لَهُ وَلَايَةٌ عَلَى السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَعُرَفَاءِ الْقَبِيلَةِ ، وَفِي حَدِيثِ
[ ص: 105 ] وَفْدِ
هَوَازِنَ : قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341356لِيَرْفَعْ إِلَيَّ عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَفِي الْحُقُوقِ الْقِبْلِيَّةِ .
وَمَعْنَى " بِالْعَدْلِ " أَيْ بِالْحَقِّ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=26839_15694إِقْرَارَ الْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَاضٍ إِذَا ظَهَرَ سَبَبُهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ خَشْيَةَ التَّوَاطُؤِ عَلَى إِضَاعَةِ أَمْوَالِ الضُّعَفَاءِ .