لما اقتضت الأخوة أن تحسن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم ، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشيها في الجاهلية لهذه المناسبة ، وهذا نداء رابع أريد بما بعده أمر المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم .
وعن الضحاك : أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعمار وصهيب ، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها .
وروى الواحدي عن أن سبب نزولها : أن ابن عباس كان في سمعه وقر وكان إذا أتى مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم يقول : أوسعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوما يتخطى رقاب الناس فقال رجل : قد أصبت مجلسا فاجلس . فقال ثابت بن قيس بن شماس ثابت : من هذا ؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابن فلانة وذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية ، فاستحيا الرجل . فأنزل الله هذه الآية ، فهذا من اللمز .
وروي عن عكرمة : أنها نزلت لما عيرت بعض أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم بالقصر ، وهذا من السخرية . أم سلمة
وقيل : عير بعضهن صفية بأنها يهودية ، وهذا من اللمز في عرفهم .
وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلا غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر . وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مهم من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهل فيها . وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها . وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز .
[ ص: 247 ] والسخر ، ويقال السخرية : الاستهزاء ، وتقدم في قوله : فيسخرون منهم في سورة براءة ، وتقدم وجه تعديته بـ ( من ) .
والقوم : اسم جمع : جماعة الرجال خاصة دون النساء ، قال زهير :
وما أدري وسوف أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء ؟
وتنكير قوم في الموضعين لإفادة الشياع ، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين .
وإنما أسند " يسخر " إلى " قوم " دون أن يقول : لا يسخر بعضكم من بعض كما قال : ولا يغتب بعضكم بعضا للنهي عما كان شائعا بين العرب من سخرية القبائل بعضها من بعض فوجه النهي إلى الأقوام . ولهذا أيضا لم يقل : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة .
ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب . وهذا النهي صريح في التحريم .
وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام ، كما يشمل لفظ ( المؤمنين ) المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع ، فإن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعا لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلا في النساء ، فلأجل دفع التوهم الناشئ من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص والأنثى بالأنثى في سورة البقرة .
وجملة عسى أن يكونوا خيرا منهم مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في بذكر حالة يكثر وجودها في المسخورية ، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر ، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه . وليست جملة " عسى أن يكونوا خيرا منهم " صفة لقوم من قوله : " من قوم " وإلا لصار النهي عن السخرية خاصا بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر ، وكذلك القول في جملة عسى أن يكن خيرا منهن وليست صفة لـ " نساء " من قوله : " من نساء " . النهي عن السخرية
[ ص: 248 ] وتشابه الضميرين في قوله : أن يكونوا خيرا منهم وفي قوله : أن يكن خيرا منهن لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير ، فهو كالضمائر في قوله تعالى : وعمروها أكثر مما عمروها في سورة الروم ، وقول عباس بن مرداس :
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا