افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه ، وغرض ذلك ما تقدم آنفا .
ومناسبة المقسم به للمقسم عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما يماثلان النور والظلمة ، وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر والأنثى ذرية صالحة وغير صالحة .
وفي القسم بالليل والنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته ، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانب الذي يغشاه من الأرض ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين ; لأن ذلك أقوى أحواله ، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهوره على الأرض كذلك .
وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله : ( والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها ) في سورة الشمس .
واختير القسم بالليل والنهار لمناسبته للمقام ; لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة .
وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكس ما في سورة الشمس ; لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور ، وأيامئذ كان الكفر مخيما على الناس إلا نفرا قليلا ، وكان الإسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بإشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار ، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله : ( إن سعيكم لشتى ) إلى قوله : ( إذا تردى ) .
[ ص: 379 ] وفي قوله : ( إن سعيكم لشتى ) إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله : ( فأما من أعطى ) الآية ؛ ليتمكن تفصيله في الذهن .
وحذف مفعول ( يغشى ) لتنزيل الفعل منزلة اللازم ; لأن العبرة بغشيانه كل ما تغشاه ظلمته .
وأسند إلى النهار التجلي مدحا له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء .
والتجلي : الوضوح ، وتجلي النهار : وضوح ضيائه ، فهو بمعنى قوله : ( والشمس وضحاها ) وقوله : ( والضحى ) .
وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها ، والظلمة هي أصل أحوال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي ، وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ، ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طرأ عليه التاريخ بالأيام .
والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله : ( والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها ) في السورة السابقة .
و ( ما ) في قوله : ( وما خلق الذكر والأنثى ) مصدرية ، أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل .
والذكر والأنثى : صنفا أنواع الحيوان . والمراد : خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطبون أكثر دقائقه لتكرره على أنفسهم ذكورهم وإناثهم بخلاف تكون نسل الحيوان ، فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يحصي كثيرا منها .
والمعنى : وذلك الخلق العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد ، وتوقف التناسل على تزاوجهما ، فالقسم بتعلق من تعلق صفات الأفعال الإلهية وهي قسم من الصفات لا يختلف في ثبوته ، وإنما [ ص: 380 ] اختلف علماء أصول الدين في عد صفات الأفعال من الصفات ، فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي ، أو جعلها من تعلق صفة القدرة ، فهي حادثة عند الأشعري ، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي .
وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس ، أي : خلق العقل والمعرفة في الإنسان ، وأما القسم هنا فبخلق جسد الإنسان واختلاف صنفيه ، وجملة ( إن سعيكم لشتى ) جواب القسم . والمقصود من التأكيد بالقسم قوله : ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) .
والسعي حقيقته : المشي القوي الحثيث ، وهو مستعار هنا للعمل والكد .
وشتى : جمع شتيت على وزن فعلى مثل قتيل وقتلى ، مشتق من الشت وهو التفرق الشديد يقال : شت جمعهم ، إذا تفرقوا ، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرا :
قليل التشكي للملم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وهو استعارة أو كناية عن الأعمال المتخالفة ; لأن التفرق يلزمه الاختلاف .
والخطاب في قوله : ( إن سعيكم ) لجميع الناس من مؤمن وكافر .
واعلم أنه قد روي في الصحيحين عن علقمة قال : " - عبد الله - يعني ابن مسعود الشام ، فسمع بنا فأتانا فقال : أيكم يقرأ على قراءة أبو الدرداء ، عبد الله ؟ فقلت : أنا . قال : كيف سمعته يقرأ ( والليل إذا يغشى ) ؟ قال : سمعته يقرأ : ( والليل إذا يغشى والنهار إذ تجلى والذكر والأنثى ) . قال : أشهد أني سمعت النبيء - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هكذا . وسماها في الكشاف : قراءة النبيء - صلى الله عليه وسلم - أي : ثبت أنه قرأ بها ، وتأويل ذلك : أنه أقرأها دخلت في نفر من أصحاب أيام كان القرآن مرخصا أن يقرأ على بعض اختلاف ، ثم نسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبيء - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن وكتب في المصحف في زمن أبا الدرداء أبي بكر - رضي الله عنه - وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم : قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم .