ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين
عطف على جملة : ولقد مكناكم في الأرض تذكيرا بنعمة إيجاد النوع ، وهي نعمة عناية ، لأن الوجود أشرف من العدم ، بقطع النظر عما قد [ ص: 36 ] يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النوع بأن أمر الملائكة بالسجود لأصله ، وأدمج في هذا الامتنان تنبيه وإيقاظ إلى عداوة الشيطان لنوع الإنسان من القدم ، ليكون ذلك تمهيدا للتحذير من وسوسته وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عما أوقع فيه الناس من الشرك والضلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وما تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وسط في خلال الموعظة .
والخطاب للناس كلهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنهم الغرض في هذه السورة .
وتأكيد الخبر " باللام " و " قد " للوجه الذي تقدم في قوله : ولقد خلقناكم ، وتعدية فعلي الخلق والتصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النوع الذي هم من أفراد تعين أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثم صورناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم .
والخلق الإيجاد وإبراز الشيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وصف الله به .
والتصوير جعل الشيء صورة ، والصورة الشكل الذي يشكل به الجسم كما يشكل الطين بصورة نوع من الأنواع .
وعطفت جملة " صورناكم " بحرف ثم الدالة على تراخي رتبة التصوير عن رتبة الخلق ، لأن التصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانية المتقنة حسنا وشرفا ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتدبير ، سواء كان التصوير مقارنا للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدة ، كما في تصوير الأجنة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى : فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما .
[ ص: 37 ] وتعدية فعلي خلقنا و صورنا إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضمير قبله في قوله ولقد مكناكم في الأرض الآية فالخطاب للناس كلهم توطئة لقوله فيما يأتي : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنهم الذين سول لهم الشيطان كفران هذه النعم لقوله تعالى عقب ذلك : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا وقوله فيما تقدم : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون .
وأما تعلق فعلي الخلق والتصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأول وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنزل خلق أصل نوعهم منزلة خلق أفراد النوع الذين منهم المخاطبون ؛ لأن المقصود التذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم الناس بعد الطوفان ، لأن المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يوؤل فعلا الخلق والتصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومن آمن به بالخروج من القرية .
ودل قوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم على أن المخلوق والمصور هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصورناه فبرز موجودا معينا مسمى بآدم ، فإن التسمية طريق لتعين المسمى ، ثم أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .
و ثم في قوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم عاطفة الجملة [ ص: 38 ] على الجملة فهي مقيدة للتراخي الرتبي لا للتراخي الزماني وذلك أن مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .
وقوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، تقدم تفسيره ، وبيان ما تقدم : أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يعلمه الملائكة ، عند قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس في سورة البقرة .
وتعريف الملائكة للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاما لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة . وطريق أمرهم جميعا وسجودهم جميعا ابن عباس ، لآدم لا يعلمه إلا الله ، لأن طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .
واعلم أن لآدم لا يقتضي أن يكون أمر الله الملائكة بالسجود آدم قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أن الله لما خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإن الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصا في أن آدم خلق في السماوات ولا أنه في الجنة التي هي دار الثواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنة ، وتقدم ذلك في سورة البقرة . واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : " إلا إبليس " يدل على أنه كان في عداد الملائكة لأنه كان مختلطا بهم . وقال السكاكي في المفتاح عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب .
وجملة : لم يكن من الساجدين حال من إبليس ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلت عليه الاستثناء ، لما فيها من معنى : [ ص: 39 ] أستثني ، لأن الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، وهو عين مدلول : لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيدا . وفي اختيار الإخبار عن نفي سجوده بجعله من غير الساجدين ، إشارة إلى أنه انتفى عنه السجود انتفاء شديدا لأن قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النفي أشد مما يفيده قولك لم يكن مهتديا كما في قوله تعالى : قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين في سورة الأنعام .
ففي الآية إشارة إلى أن ، وجعل له هوى ورأيا ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة . وإنما استمر في عداد الملائكة لأنه لم يحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلما حدث الأمر بالسجود ظهر خلق العصيان الكامن فيه ، فكان قوله تعالى : الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه لم يكن من الساجدين إشارة إلى أنه لم يقدر له أن يكون من الطائفة الساجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لإرجاء في حصوله بعد ، وقد علم أنه أبى السجود إباء وذلك تمهيدا لحكاية السؤال والجواب في قوله : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .
وجملة : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ابتداء المحاورة ، لأن ترك إبليس السجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : اسجدوا لآدم ، فكان بحيث يتوجه إليه استفسار عن سبب تركه السجود ، وضمير " قال " عائد إلى معلوم من المقام أي قال الله تعالى بقرينة قوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتا ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقام مقام أمر للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة .
و ما للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة .
و " منعك " معناه صدك وكفك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال : [ ص: 40 ] ما منعك أن تسجد ؛ لأنه إنما كف عن السجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فلذلك كان ذكر لا هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتأكيد ، ولا تفيد نفيا ، لأن الحرف المزيد للتأكيد لا يفيد معنى غير التأكيد . و " لا " من جملة الحروف التي يؤكد بها الكلام كما في قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد وقوله لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله أي ليعلم أهل الكتاب علما محققا . وقوله تعالى : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي ممنوع أنهم يرجعون منعا محققا ، وهذا تأويل ، الكسائي ، والفراء ، والزجاج ، وفي توجيه معنى التأكيد إلى الفعل مع كون السجود غير واقع فلا ينبغي تأكيده خفاء لأن التوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكد ، فلا ينبغي التعويل على هذا التأويل . والزمخشري
وقيل لا نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دل عليه " منعك " لأن المانع من شيء يدعو لضده ، فكأنه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإما أن يكون منعك مستعملا في معنى دعاك ، على سبيل المجاز ، و " لا " هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل السكاكي في المفتاح في فصل المجاز اللغوي ، وقريب منه لعبد الجبار فيما نقله الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلا ، وإما أن يكون قد أريد الفعلان ، فذكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلقة الصالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار ومن تبعه . الطبري
وانظر ما قلته عند قوله تعالى : قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني في سورة طه .
وقوله " إذ أمرتك " ظرف لـ " تسجد " وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إما لأنه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلا [ ص: 41 ] للجن ليجعل منه صنفا متميزا عن بقية الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى : إلا إبليس كان من الجن الآية ، وإما لأن الجن نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملا له بناء على أن الملائكة خلقوا من النور وأن الجن خلقوا من النار . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وإلى هذا ذهب خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار المعتزلة وبعض الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النار نورا مخلوطا بالمادة ، ويكون المراد بالنور نورا مجردا ، فيكون الجن نوعا من جنس الملائكة أحط ، كما كان الإنسان نوعا من جنس الحيوان أرقى .
وفصل : قال أنا خير منه لوقوعه على طريقة المحاورات .
وبين مانعه من السجود بأنه رأى نفسه خيرا من آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله : أنا خير منه مسوق مساق التعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام .
وجملة : خلقتني من نار بيان لجملة : أنا خير منه فلذلك فصلت ، لأنها بمنزلة عطف البيان من المبين .
وحصل لإبليس العلم بكونه مخلوقا من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقه ، أو بإخبار من الله تعالى .
وكونه مخلوقا من النار ثابت قال تعالى : خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار وإبليس من جنس الجن قال تعالى في سورة الكهف : فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .
واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم .
[ ص: 42 ] والنار هي الحرارة البالغة لشدتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة ، كالنار التي في الشمس ، وإذا بلغت الحرارة الالتهاب عرضت النارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النار الباقية في الرماد .
والنار أفضل من التراب لقوة تأثيرها وتسلطها على الأجسام التي تلاقيها ، ولأنها تضيء ، ولأنها زكية لا تلصق بها الأقذار ، والتراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكون منه الأجسام الحية كلها .
وأما النور الذي خلق منه الملك فهو أخلص من الشعاع الذي يبين من النار مجردا عن ما في النار من الأخلاط الجثمانية .
والطين التراب المختلط بالماء ، والماء عنصر آخر تتوقف عليه الحياة الحيوانية مع النار والتراب ، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلها أن مقرر ، وأن إبليس أوخذ بعصيان أمر الله عصيانا باتا ، والله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود شرف النار على التراب لآدم قد علم استحقاق آدم ذلك بما أودع الله فيه من القوة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزكاء والتقديس ، فأما إبليس فغره زكاء عنصره وذلك ليس كافيا في التفضيل وحده ، ما لم يكن كيانه من ذلك العنصر مهيئا إياه لبلوغ الكمالات ، لأن العبرة بكيفية التركيب واعتبار خصائص المادة المركب منها بعد التركيب ، بحسب مقصد الخالق عند التركيب ، ولا عبرة بحالة المادة المجردة ، فالله تعالى ركب إبليس من عنصر النار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوة العنصرية في الفساد ، والاندفاع إليه بالطبع دون نظر ، بحسب خصائص المادة المركب هو منها ، وركب آدم من عنصر التراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوة العنصرية في الخير والصلاح ، والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنظر ، بحسب ما تسمح به خصائص المادة المركب هو منها ، وكل ذلك منوط بحكمة الخالق للتركيب ، وركب الملائكة من عنصر النور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة ، والاندفاع [ ص: 43 ] إلى ذلك بالطبع دون اختيار ولا نظر ، بحسب خصائص عنصرهم . ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكية أعلى وأعجب ، وكان مبلغه إلى الرذائل الشيطانية أحط وأسهل . ومن أجل ذلك خوطب بالتكليف .
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أصل النوع البشري لأنه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسجود له كذلك ، فأما الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله : قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فجاءهم البيان مجملا بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون ثم مفصلا بقصة قوله : ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى قوله وما كنتم تكتمون . في سورة البقرة .
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السماء . وأحل الملائكة فيه . وجعله مكانا مقدسا فاضلا على الأرض فإن ذلك كله بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة ، فقال له : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها .
والتعبير بالهبوط إما حقيقة إن كان المكان عاليا ، وإما استعارة للبعد عن المكان المشرف . بتشبيه البعد عنه بالنزول من مكان مرتفع وقد تقدم ذلك في سورة البقرة .
والفاء في جملة : فاهبط لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس ، فهو من عطف كلام متكلم على كلام متكلم آخر ، لأن الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة ، كالعطف الذي في قوله تعالى : قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي .
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبب عن جوابه .
وضمير المؤنث المجرور بمن في قوله : منها عائد على المعلوم بين [ ص: 44 ] المتكلم والمخاطب ، وتأنيثه إما رعي لمعناه بتأويل البقعة ، أو للفظ السماء لأنها مكان الملائكة ، وقد تكرر في القرآن ذكر هذا الضمير بالتأنيث .
وقوله : فما يكون لك أن تتكبر فيها الفاء للسببية والتفريع تعليلا للأمر بالهبوط ، وهو عقوبة خاصة عقوبة إبعاد عن المكان المقدس ، لأنه قد صار خلقه غير ملائم لما جعل الله ذلك المكان له ، وذلك خلق التكبر لأن المكان كان مكانا مقدسا فاضلا لا يكون إلا مطهرا من كل ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك - رحمه الله : لا تحدثوا بدعة في بلدنا . وهذه الآية أصل في ثبوت الحق لأهل المحلة أن يخرجوا من محلتهم من يخشى من سيرته فشو الفساد بينهم .
ودل قوله : فما يكون لك على أن ذلك الوصف لا يغتفر منه ، لأن النفي بصيغة ما يكون لك كذا أشد من النفي بـ ( ليس لك كذا ) كما تقدم عند قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية في آل عمران ، وهو يستلزم هنا نهيا لأنه نفاه عنه مع وقوعه ، وعليه فتقييد نفي التكبر عنه بالكون في السماء لوقوعه علة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطرد من السماء ، فلا دلالة لذلك القيد على أنه يكون له أن يتكبر في غيرها ، وكيف وقد علم أن التكبر معصية لا تليق بأهل العالم العلوي .
وقوله : " فأخرج " تأكيد لجملة " فاهبط " بمرادفها ، وأعيدت الفاء مع الجملة الثانية لزيادة تأكيد تسبب الكبر في إخراجه من الجنة .
وجملة : إنك من الصاغرين يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغرا حقيرا حيثما حل ، ففصلها عن التي قبلها للاستئناف ، ويجوز أن تكون واقعة موقع التعليل للإخراج على طريقة استعمال إن في مثل هذا [ ص: 45 ] المقام استعمال فاء التعليل ، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصغار والحقارة التي غفل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التكبر .
وقوله : إنك من الصاغرين أشد في إثبات الصغار له من نحو : إنك صاغر ، أو قد صغرت ، كما تقدم في قوله تعالى : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . في سورة الأنعام وقوله آنفا : لم يكن من الساجدين . والصاغر المتصف بالصغار وهو الذل والحقارة ، وإنما يكون له الصغار عند الله لأن جبلته صارت على غير ما يرضي الله ، وهو صغار الغواية ، ولذلك قال بعد هذا : فبما أغويتني .