( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) : سبب نزول هذه الآية ما رواه ، عن البخاري قال : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فصلى نحو البراء بن عازب بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) الآية . فقال : السفهاء من الناس ، وهم اليهود ، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فقال الله تعالى : ( قل لله المشرق والمغرب ) الآية . ( ومناسبة هذه الآية ) لما قبلها : أن اليهود والنصارى قالوا : إن إبراهيم ومن ذكر معه كانوا يهودا ونصارى . ذكروا ذلك طعنا في الإسلام ; لأن النسخ عند اليهود باطل ، فقالوا : الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه ، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله : ( قل لله المشرق والمغرب ) الآية ، فبين ما كان هداية ، وما كان سفها . وسيقول ، ظاهر في الاستقبال ، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل ، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة ، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة ، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، ليكون ذلك معجزا ، إذ هو إخبار بالغيب . ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء ، وتستعد له ، فيكون أقل تأثيرا منه إذا فاجأ ، ولم يتقدم به علم ، وليكون الجواب مستعدا لمنكر ذلك ، وهو قوله : ( قل لله المشرق والمغرب ) . وإلى هذا القول ذهب وغيره . وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة ، متأخرة في النزول ، وأنه نزل قوله : ( الزمخشري قد نرى تقلب وجهك ) الآية ، ثم نزل : ( سيقول السفهاء من الناس ) . نص على ذلك [ ص: 420 ] وغيره . ويدل على هذا ويصححه حديث ابن عباس البراء المتقدم ، الذي خرجه . وإذا كان كذلك ، فمعنى قوله : سيقول ، أنهم مستمرون على هذا القول ، وإن كانوا قد قالوه ، فحكمة الاستقبال أنهم ، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي ، فهم أيضا يقولونه في المستقبل . وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي . وإن معنى سيقول : قال ، كما زعم بعضهم ; لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه . ولو كان عاريا من السين ، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية . والسفهاء : البخاري اليهود ، قاله ، البراء بن عازب ومجاهد ، . وابن جبير وأهل مكة قالوا : اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم ، رواه أبو صالح ، عن ، واختاره ابن عباس . أو المنافقون قالوا : ذلك استهزاء بالمسلمين ، ذكره الزجاج ، عن السدي . وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله : ( ابن مسعود ألا إنهم هم السفهاء ) ، أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس . قال ابن عطية وغيره : وخص بقوله من الناس ; لأن السفه أصله الخفة ، يوصف به الجماد . قالوا : ثوب سفيه ، أي خفيف النسج والهلهلة ، ورمح سفيه : أي خفيف سريع النفوذ . ويوصف به الحيوانات غير الناس ، فلو اقتصر لاحتمل الناس وغيرهم ; لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة ، وإلى غيرهم مجازا ، فارتفع المجاز بقوله : ( من الناس ما ولاهم ) ، أي ما صرفهم ، والضمير عائد على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن قبلتهم . أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمنا طويلا ، فصحت الإضافة .
وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة . هكذا ذكر بعض المفسرين ، وليس ذلك إجماعا ، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة ، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة ، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم . فلما توجه إلى بيت المقدس ، قال أهل مكة - زارين عليه وعائبين - : " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ، هذا على حذف مضاف ، أي على استقبالها . والاستعلاء هنا مجاز ، وحكمته لهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات . صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه ، الملازم دائما . وفي وصف القبلة بقوله : ( التي كانوا عليها ) ، ما يدل على تمكن استقبالها ، وديمومتهم على ذلك . والضمير في قوله : " قبلتهم " و " كانوا " ضمير المؤمنين . وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائدا على السفهاء ، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وهي إلى المغرب ، وقبلة النصارى وهي إلى المشرق ، والعرب لم يكن لهم صلاة ، فيتوجهون إلى شيء من الجهات . فلما توجه نحو الكعبة استنكروا ذلك فقالوا : كيف يتوجه إلى غير هاتين المعروفتين ؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس : أكان بوحي متلو ؟ أو بأمر من الله غير متلو ؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي ؟ فاختار بيت المقدس ، قاله الربيع ; أو باجتهاده بغير وحي ، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية . أقوال : الأول : عن ، روي عنه أنه قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة : وكذلك اختلفوا في ابن عباس بيت المقدس ، فقيل : ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا . وقيل : تسعة ، أو عشرة أشهر . وقيل : ثلاثة عشر شهرا . وقيل : من وقت فرض الخمس وائتمامه المدة التي صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إلى بجبريل ، إثر الإسراء ، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ثم هاجر في ربيع الأول ، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين . وقيل : إلى جمادى . وقيل : إلى نصف شعبان . وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الظهر ، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة ، وقد استدل بهذه الآية على جواز ، إذ صلاته إلى نسخ السنة للقرآن بيت المقدس ليس فيها قرآن ، واستدل بها أيضا على بطلان قول من يزعم أن النسخ بداء .
( قل لله المشرق والمغرب ) : الأمر متوجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه تعليم له - صلى الله عليه وسلم - كيف يبطل مقالتهم ، ورد عليهم إنكارهم . والمعنى : أن الجهات كلها لله تعالى ، [ ص: 421 ] يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها ، وأن تجعل قبلة . وقد تقدم الكلام على قوله : ( لله المشرق والمغرب ) ، فأغنى عن الإعادة هنا . وقد شرح المشرق ببيت المقدس ، والمغرب بالكعبة ; لأن الكعبة غربي بيت المقدس ، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها . ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) : أي من يشاء هدايته . وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، فأغنى عن إعادته : وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه ، وهنا عدي بإلى . وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها ، فقيل : الصبح ، وقيل : الظهر ، وقيل : العصر . وكذلك أكثروا الكلام في ، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل ، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع ، ولا قاد نحوها العقل ، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا ، على عادتنا في ذلك . ومن طلب للوضعيات تعاليل ، فأحرى بأن يقل صوابه ويكثر خطؤه . وأما ما نص الشرع على حكمته ، أو أشار ، أو قاد إليه النظر الصحيح ، فهو الذي لا معدل عنه ، ولا استفادة إلا منه . وقد فسر قوله : ( صراط مستقيم ) بأنه القبلة التي هي الكعبة . والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه ، فالكعبة من بعض مشروعاته . الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة