تسعون جارية في بطن جارية
وقال المهدوي : المعنى في السفن الجارية ، يعني أن ذلك هو على سبيل الامتنان ، والمحمولون هم المخاطبون . ( لنجعلها ) أي : سفينة نوح - عليه السلام - لكم تذكرة بما جرى لقومه الهالكين ، وقومه الناجين فيها وعظة . قال قتادة : أدركها أوائل هذه الأمة . وقال : كانت ألواحها على الجودي . وقيل : لنجعل تلك الجملة في سفينة ابن جريج نوح - عليه السلام - لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح - عليه السلام - ( وتعيها ) أي : تحفظ قصتها ( أذن ) من شأنها أن تعي المواعظ ، يقال : وعيت لما حفظ في النفس ، وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية . وقال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن الله ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله . وفي الحديث ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لـ علي : إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي . قال علي - رضي الله تعالى عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئا فنسيته ، وقرأها : وتعيها ، بكسر العين وتخفيف الياء العامة . وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه . و بخلاف عنه : بإسكانها . و قنبل حمزة : بإخفاء الحركة ، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل . نحو : كبد وعلم . وتعي ليس على وزن فعل ، بل هو مضارع وعي ، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه . وروى عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق : وتعيها بتشديد الياء ، قيل : وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء احترازا ممن سكنها ، لا إدغام حرف في حرف ، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم . وروي عن حمزة ، وعن موسى بن عبد الله العنسي : وتعيها بإسكان الياء ، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر ، واحتمل أن يكون مثل قراءة " من أوسط ما تطعمون أهاليكم " بسكون الياء . وقال : ( فإن قلت ) : لم قيل الزمخشري أذن واعية على التوحيد والتنكير ؟ ( قلت ) : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم عند الله تعالى ، وأن ما سواها لا يبالي بآلة وإن ملأوا ما بين الخافقين . انتهى ، وفيه تكثير .
ولما ذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا ، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وبدأ بإعلام يوم القيامة ، فقال : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وهذه النفخة نفخة الفزع . قال : وهي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب العالم ، ويؤيد ذلك قوله : ابن عباس وحملت الأرض والجبال . وقال ابن المسيب ومقاتل : هي النفخة الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ ، والواو لا ترتب . وروي ذلك عن أيضا ، ولما كانت مرة أكدت بقوله : ( واحدة ) . وقرأ الجمهور : نفخة واحدة ، برفعهما ، ولم تلحق التاء نفخ ; لأن تأنيث النفخة مجازي ووقع الفصل . وقال ابن عباس ابن عطية : لما نعت صح رفعه . انتهى . ولو لم ينعت لصح ; لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص ، إنما هو نعت توكيد . [ ص: 323 ] وقرأ أبو السمال : بنصبهما ، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل . وقرأ الجمهور : ( وحملت ) بتخفيف الميم . وابن أبي عبلة وابن مقسم ، والأعمش وابن عامر في رواية يحيى : بتشديدها ، فالتخفيف على أن تكون الأرض والجبال حملتها الريح العاصف أو الملائكة ، أو القدرة من غير واسطة مخلوق . ويبعد قوله من قال : إنها الزلزلة ; لأن الزلزلة ليس فيها حمل ، إنما هي اضطراب . والتشديد على أن تكون للتكثير ، أو يكون التضعيف للنقل ، فجاز أن تكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل ، والثاني محذوف ، أي : ريحا تفتتها أو ملائكة أو قدرة . وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل ، والأول محذوف ، وهو واحد من الثلاثة المقدرة . وثني الضمير في ( فدكتا ) وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع ; لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال ، أي : ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت ، وترجع كما قال تعالى : كثيبا مهيلا . والدك فيه تفرق الأجزاء لقوله : ( هباء ) والدق فيه اختلاف الأجزاء . وقيل : تبسط فتصير أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وهو من قولهم : بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا ، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما . ( فيومئذ ) معطوف على فإذا نفخ في الصور وهو منصوب بـ " وقعت " ، كما أن " إذا " منصوب بـ " نفخ " على ما اخترناه وقررناه ، واستدللنا له في أن العامل في " إذا " هو الفعل الذي يليهما لا الجواب ، وإن كان مخالفا لقول الجمهور . والتنوين في " إذ " للعوض من الجملة المحذوفة ، وهي في التقدير : فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت ، و " الواقعة " هي القيامة ، وقد تقدم في إذا وقعت الواقعة أن بعضهم قال : هي صخرة بيت المقدس .