[ ص: 32 ] ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون )
الآية الأولى من هذه الآيات معطوفة هي وما في حيزها على آخر أمثالها من طوائف الآيات التي تصف أحوال المشركين وعقائدهم وأعمالهم ، ومقاومتهم للإسلام وصدهم عنه وعن الرسول الداعي إليه ، مبدوءا أولها بالحكاية عنهم بضمير الغيبة ، ثم قد يتخللها آيات بضمير الخطاب على طريقة الالتفات ، ويتضمن بعضها ما يتضمن من الحقائق في الإيمان وسنن الاجتماع وطبائع الأمم ، وأقرب هذه الطوائف الآيات المبدوءة بضمير الغيبة في الحكاية عنهم الآية التي افتتح بها هذا الجزء ( الثامن ) وهي قوله - تعالى - : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) ( 111 ) وهي إبطال لما حكاه عنهم بقوله : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن ) ( 109 ) إلى آخر الآيتين اللتين ختم بهما الجزء السابق ( السابع ) وقد تضمنت هذه الطائفة من الآيات - ومن الجزء إلى هنا - احتجاجا على المشركين في آية القرآن وكونها أقوى حجة على الرسالة من جميع آيات الرسل ، وحقائق في طباع البشر وشئون الكفار في جميع الأمم ، وإثبات ضلال أكثر أهل الأرض ، وتخصيص مسألة الذبائح لغير الله - من ضلالهم - بالذكر لأنها من أكبرها ، ووحي الشياطين لأوليائهم في المجادلة فيها وتلا ذلك ضرب المثل للمؤمنين والكافرين ، وبيان قاعدة الاجتماع البشري في الأمم الضار [ ص: 33 ] بمكر زعمائها المجرمين ، وهذه القاعدة تنطبق أتم الانطباق على جمهرة أكابر مكة ، وبذلك يكون التناسب والاتصال بين هذه الآيات وبين ما قبلها من وجهين : وجه عام يتعلق بالأسلوب في الطوائف الكثيرة من آيات كل سياق ، ووجه خاص يتعلق ببيان كون مجرمي مكة الماكرين المبين حالهم في الآية الأولى ليسوا إلا بعض أفراد العام في الآية التي قبلها وهو المقصود أولا بالذات من الاعتبار بتلك القاعدة . ويليها بيان سنة الله في المستعدين للإيمان والهدى ، وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه وهو صراط الرب وجزاء سالكه عند الله تعالى . قال عز وجل :
( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي وإذا جاءت أولئك المشركين الذين " أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " آية بينة من القرآن تتضمن حجة عقلية ظاهرة الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله إلى الأمم قبلنا . قال هذا أكابرهم المجرمون ، ورؤساؤهم الماكرون ، وتبعهم عليه الغوغاء المقلدون . قال فيه : يعنون حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطي ابن جرير موسى من فلق البحر وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وقال ابن كثير : أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل . كقوله جل وعلا : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) ( 25 : 21 ) الآية . فالقول الأول معناه أنهم لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا أوتوا على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي أولئك الرسل عليهم السلام . ومعنى القول الآخر أنهم لا يكونون مؤمنين بالرسالة مطلقا إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم ، وهذا أقرب إلى قوله تعالى في الرد عليهم : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وإن كان كل من المعنيين صحيحا واقعا . قرأ " رسالته " ( بالإفراد ) ابن كثير وحفص عن نافع ، وقرأها الباقون رسالاته ( بالجمع ) أي رسالاته إلى رسله . وهذه الجملة من كلام الله تعالى رد عليهم وبيان لجهالتهم ، ينتظره السامع والقارئ بعد حكاية ما تقدم من قولهم . وبالوقف قبله تام لأنه آخر قولهم المحكي عنهم .
قال الحافظ ابن كثير : أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه كقوله تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ) ( 43 : 31 ، 32 ) الآية . يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم من القريتين ، أي مكة والطائف . وذلك أنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كقوله تعالى مخبرا عنه : ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ) ( 21 : 36 ) [ ص: 34 ] وقال تعالى : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ) ( 25 : 41 ) وزاد ابن كثير أنهم كانوا مع ذلك معترفين بفضله وشرفه ونسبه وطهارة بيته ومرباه ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه ، وأنهم كانوا يسمونه الأمين ، واستشهد على ذلك بشهادة أبي سفيان لهرقل بصدقه والثناء عليه يوم كان أشد أولئك الأكابر مجاهرة بعداوته ومكرا به ، كأنه يعني أن ما يعلمون من فضائله الذاتية والنسبية والبيتية ينبغي أن يكون مقنعا لهم بأنه أولى من جميع أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة وبكل كرامة صحيحة من الحكم العدل العليم الخبير ولكن حسد الأكابر وبغيهم وتقليد من دونهم لهم بتأثير مكرهم قد كانا هما الباعثين لهم على تلك الأقوال فيه ، والأفعال في عداوته ومعاندته .
وقوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) حجة لأهل الحق على أن الرسالة فضل من الله - تعالى - يختص به من يشاء من خلقه ، لا ينالها أحد بكسب ، ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب ، وعلى أنه تعالى لا يختص بهذه الرحمة العظيمة ، والمنقبة الكريمة ، إلا من كان أهلا لها بما أهله هو من سلامة الفطرة ، وعلو الهمة ، وزكاء النفس ، وطهارة القلب وحب الخير والحق . وكان أذكياء العرب في الجاهلية على شركهم بالله تعالى يعلمون أن الصادقين محبي الحق وفاعلي الخير من الفضلاء أهل لكرامته - تعالى - وعنايته كما يؤخذ من استنباط في حديث أم المؤمنين خديجة في بدء الوحي فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال أم المؤمنين عائشة لخديجة رضوان الله عليها : " " . هذا لفظ لقد خشيت على نفسي ، قالت له : كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق مسلم .
وذكر الرازي أن في قوله - تعالى - : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فيه صلى الله عليه وسلم تنبيها على دقيقة حقيقة بالذكر ، وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة من المكر والغدر والغل والحسد ( وقولهم ) : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " عين المكر والغدر والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ؟ انتهى . وذكر " الرازي " قبل ذلك أن هذه الآية نزلت في قول الوليد بن المغيرة : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا ، ومن المعهود أن يصل الغرور ببعض المغرورين بالمال والقوة إلى اعتقاد مثل هذا وانتحاله لأنفسهم - وإن كانت الرواية في كون هذا القول كان سببا للنزول لم تصح ، وقيل في سبب نزول غيرها - كما أنه عهد منهم أن يقولوا مثل هذا القول كبرا وعنادا - يكابرون بهما أنفسهم - وخداعا وغرورا يغشون بهما غيرهم . ولا يهتدي لمثل استنباط - رضي الله عنها - إلا الأفراد من الفضلاء المنصفين ، وقد سبق في غير موضع من تفسير هذه السورة تحقيق القول في طلب المشركين [ ص: 35 ] للآيات الكونية ، وفي كبريائهم وحسدهم وغرورهم ، وكونها هي العلل الحقيقية لكفرهم وجحودهم . خديجة
بعد أن رد الله - تعالى - على أولئك المستكبرين المغرورين ما تضمنه قولهم من دعوى الاستعداد لمنصب الرسالة ، يخطر في بال القارئ ما يسائل به نفسه عن جزائهم فقال تعالى في بيان ذلك : ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) هذا الوعيد صريح في كون قائلي ذلك القول : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " من المجرمين الماكرين الذين مضت سنة الله - تعالى - أن يكونوا أكابر وزعماء في كل قرية دب فيها الفساد وكان أهلها مقاومين للإصلاح ، وفيما ذهبنا إليه من عود مكرهم عليهم بعقاب الله تعالى إياهم في الآخرة باضطراد ، وفي الدنيا حيث يمكرون بالرسل ويصدون عما جاءوا به أو ما يقرب مما جاءوا به من الإصلاح ، وقد قصر الحافظ ابن كثير في اقتصاره على ذكر عقابهم في الآخرة .
الصغار كالصغر ( بالتحريك ) في الأمور المعنوية ، كالصغر ( بوزن العنب ) في الأشياء الحسية كما قال الراغب وقد فسروه بالذلة والهوان ، جزاء على الكبر والطغيان . وفسر الراغب الصاغر بالراضي بالمنزلة الدنية وهو أقرب إلى الصواب ، والتحقيق في تفسير ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ( 9 : 29 ) أن المراد بالصغار خضوعهم لأحكامنا .
ونقل عن بعض أهل التفسير المأثور أن إعطاءهم إياها هو الصغار ، أي لأنه طاعة وخضوع لغيرهم ، وهناك قولان آخران لهم : ( أحدهما ) ما رواه عن ابن جرير الضحاك أن معناه أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم . ( وثانيهما ) أن يمشوا بها وينقلوها إلى العامل . وليس هذا ولا ذاك بمعنى الصغار في اللغة ، وإنما أراد قائلوهما أنه يتحقق بهما ، ولم يريدوا أن اللفظ يدل عليه بوضعه اللغوي .
ومعنى كون هذا الصغار يصيبهم عند الله أنه يحصل لهم في الآخرة ، إذ كل ما فيها يطلق عليه أنه عند الله باعتبار أنه ليس لأحد من الخلق هنالك تصرف ما ولا تأثير ، لا كالدنيا التي صرف الله فيها الناس أنواعا من التصرف . أو معناه أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره ، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه القدري التكويني الذي دبر به نظام الخلق وما ثبت في حكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق ، يطلق على كل منهما أنه عنده . قال تعالى في أهل الإفك : ( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) ( 24 : 13 ) ثم قال فيه : ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) ( 24 : 15 ) وعلى القول الثاني يصح أن يحصل هذا الجزاء لهم بالصغار على استكبارهم عن الحق في الدار الدنيا قبل الآخرة وعلى القول الأول يتعين أن يكون في الآخرة ، وحينئذ يكون المراد بالعذاب الشديد ما يصيبهم [ ص: 36 ] في الدنيا أو في الدنيا والآخرة جميعا . قال تعالى : ( كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) ( 39 : 25 ، 26 ) وقال في عاد قوم هود بعد ما ذكر من استكبارهم وجحودهم : ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ) ( 41 : 16 ) وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد ، ولا يطرد عذاب الأفراد وإن كانوا من المجرمين الماكرين ولكن أكابر مجرمي مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له قد عذبوا في الدنيا كالخمسة المستهزئين الذين قيل إن السياق السابق في طلب الآيات - الذي يعد هذا السياق تابعا له - نزل فيهم لأنهم رؤساء المجرمين [ راجع تفسير الآيات 109 ، 112 من سورة الأنعام ] وقتل من قتل منهم في بدر كما هو معروف في السيرة النبوية .
وإذ قد بين تعالى عاقبة المجرمين الماكرين الذين حرموا الاستعداد للإسلام بعد بيان حالهم ، قفى عليه بالمقابلة بينهم وبين المستعدين له ، ثم ببيان ظهور هدايته واستقامة محجته ، وبجزاء المهتدين به ، على حسب سنته في كتابه فقال :