الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 6 ) مسألة سؤال العباد ربهم عن أفعاله وأحكامه . قد أثبت الله تعالى لنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن عباده يسألونه يوم القيامة عن الجزاء وحكمته فيجيبهم ، كما سألوا الرسل في الدنيا عن أمور كثيرة من أفعال الله تعالى وأحكامه فأجيبوا ، وأن الكفار يحتجون في الآخرة فيقيم عليهم الحجة . ومما حكاه عن المسلمين في الدنيا قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ) ( 4 : 77 ) إلى قوله : ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) الآية . وقال في بيان حكمة إرسال الرسل : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) ( 4 : 165 ) وقال في كفار هذه الأمة : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ( 20 : 134 ) أي من قبل إرسال الرسول إليهم بالقرآن . وقال في سؤال العباد ربهم : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) ( 20 : 124 127 ) وفي الحديث الصحيح " إن الله تعالى أعطى كلا من أهل التوراة وأهل الإنجيل من الأجر على العمل بكتابه قيراطا قيراطا ، وأعطى أهل القرآن على العمل به قيراطين قيراطين ، وضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثل من استأجر عمالا بأجرة معينة على عمل كثير ، وعمالا بأجرة على عمل قليل ، وذكر أن المؤمنين المأجورين من أهل الكتابين يسألون ربهم عن ذلك في الآخرة . قال : " فقال أهل الكتابين : أي رب أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين ، وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا منهم . قال الله عز وجل : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء " أخرجه البخاري في أبواب مواقيت الصلاة وكتاب التوحيد وغيرهما . وهذا المعنى في آخر سورة الحديد من كتاب الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ) ( 57 : 28 ) إلى قوله : ( والله ذو الفضل العظيم 29 ) والحديث يدل على أن الله تعالى أطلع رسوله فيما أظهره من الغيب على ما يكون من سؤال مؤمني أهل الكتابين بهم عن سبب تفضيل هذه الأمة عليهم وإجابته تعالى إياهم ، وجواب الرب سبحانه لأهل الكتابين مبني على اتصافه عز وجل بالعدل والفضل وتنزهه عن الظلم ، ومن العدل إعطاء الحق لمستحقه ، وحق من يعبد الله تعالى وحده من عباده ولا يشرك به شيئا أن يثيبهم الجنة ولا يعذبهم عذاب من أشرك في النار . وقد ثبت في الصحيحين وسنن النسائي أن معاذا رضي [ ص: 50 ] الله عنه قال : بينما أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال : يا " معاذ " ، قلت لبيك رسول الله وسعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : " يا معاذ " قلت : لبيك رسول الله وسعديك . ثم سار ساعة . ثم قال : " يا معاذ " قلت لبيك رسول الله وسعديك . قال : " هل تدري ما حق الله على عباده ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم سار ساعة ثم قال : " يا معاذ بن جبل " قلت : لبيك رسول الله وسعديك . قال : " هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " حق العباد على الله ألا يعذبهم " رواه عنه البخاري في بضعة كتب من الصحيح ومسلم في كتاب الإيمان . وهذه النصوص التي أوردناها من الآيات والأحاديث حجة على الرازي ومن قال بقوله من الأشعرية وغيرهم من إطلاق عدم سؤال العباد ربهم عن شيء ، وعدم ثبوت أي حق عليه تعالى ، وحجة لسلف الأمة الصالح وهم أهل السنة حقا من إثبات كل ما أثبته الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما تقدم بيانه .

                          ( 7 ) يمكن رد نظريات الشيخ الأشعري ونظريات شيخه الجبائي معا من وجوه أخرى على مذهب السلف الذي هو الأخذ بظواهر النصوص من أن الثواب بالإيمان والعمل ، وأن الأحكام الشرعية مبنية على الحكمة ، ومعللة بما يرجع إلى درء المفاسد وجلب المصالح والمنافع الدنيوية والأخروية ، وكون الدنيا مزرعة الآخرة ، وكذا على مذهب المعتزلة على ما حرره الشيخ المقبلي نقلا عن كتبهم ، فنذكر بعض ما يخطر من ذلك بالبال ، ليكون نموذجا لمن يبني عقيدته على قواعد الحجة والبرهان ، ويعرف الحق بنفسه لا بآراء الرجال ، فنقول :

                          ذكر التاج السبكي في ترجمة الشيخ أنه قال للجبائي : ( ما قولك في ثلاثة : مؤمن وكافر وصبي ؟ فقال : المؤمن من أهل الدرجات ، والكافر من أهل الهلكات ، والصبي من أهل النجاة . فقال الشيخ : فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن ؟ قال الجبائي : لا ، يقال له إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلها . قال الشيخ : فإن قال : التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن . قال الجبائي : يقول له الله : كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت ، فراعيت مصلحتك وأمتك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف . قال الشيخ : فلو قال الكافر يارب علمت حاله كما علمت حالي فهلا راعيت مصلحتي مثله ؟ فانقطع الجبائي ) .

                          فأما جواب الجبائي الأول في المؤمن الطائع والكافر الفاسق فهو الحق الذي بينه الله في كتابه بقوله في جزاء المؤمنين الكاملين : ( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) ( 8 : 4 ) [ ص: 51 ] وقوله في جزاء الفريقين بالإجمال : ( ولكل درجات مما عملوا ) ( 6 : 132 ) وستأتي قريبا ، وقوله في تفصيل ذلك : ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ) ( 20 : 74 ، 75 ) فهذه الآيات وغيرها من النصوص في المسألة بلفظ الدرجات وترتيب الجزاء على الوصف دليل على كونه علة له ، كما قاله المفسرون من الأشاعرة وغيرهم . والنصوص في ترتيب الجزاء على الإيمان والكفر مع الأعمال كثيرة جدا .

                          وكذلك جوابه الأول عن مسألة الصبي فإنه لا يستحق الدرجات التي نالها المؤمن الذي عمل الصالحات بحسب وعد الله الحق وجزائه العدل ، ولكن ذرية المؤمنين تلحق بالأصل . وأما جوابه الثاني فهو خطأ نشأ عن غفلته عن فساد السؤال في نفسه ، وذلك أن عدم حياة الصبي إلى أن يبلغ ويعمل ما يعمل مسألة عدمية لا وجه لسؤال الخالق عنها ، ولا يأتي فيها مسألة الأصلح في مذهب المعتزلة ; لأنهم يقولون : إن أفعاله وأحكامه تعالى يجب بمقتضى الحكمة ألا تخلو عن مصلحة ، وأن تكون من حيث هي صادرة عنه تعالى حسنة وخيرا . ولا تقتضي قواعدهم هذا في الأمور العدمية السلبية بأن يقال مثلا : إنما لم يخلق من صلب فلان مائة رجل لكذا من الحكم والمصالح ، ولم يجعل عمر فلان ألف سنة لكذا وكذا .

                          وأما النظر في المسألة من جهة القدر والسنن فيقال فيه بالاختصار : إن الله تعالى جلت حكمته قد مضت سنته في نظام أمور الخلق أن يكون لطول العمر أسباب ، من روعيت فيه صغيرا ممن يقوم بأمر تربيته وراعاها في أعماله التي يستقل بها من أول النشأة طال عمره بتقدير الله تعالى ، كما أن لاختيار الإيمان على الكفر وضده واختيار الطاعة على العصيان وضده أسبابا بحسب السنن والأقدار كما أوضحناه مرارا في تفسير الآيات المتعلقة به ، وكل تلك الأقدار والسنن الإلهية مبنية على منتهى الحكمة والحق والعدل ، وفوق ذلك ما لم تصل إليه بصائر غلاة القدرية ) من الجود والفضل ، فلو سأل صبي ربه يوم القيامة لم لم يطل عمره عساه يعمل ما يستحق به الدرجات العلى ؟ فالمعقول أن يبين الله له تعالى ما خفي عنه من سننه وتقديره لأسباب الموت والحياة وكون سننه لا تتغير ولا تتبدل ، وأن إطالته لعمر فلان دون فلان لم يكن خلقا أنفا جديدا كما تزعم القدرية النفاة حتى يرد فيه السؤال : لم خص فلانا بكذا وحرم منه فلانا وهو مثله ؟ .

                          فعلم بهذا أن مسألة إطالة أعمار بعض الناس دون بعض ليس من الجود الخاص الذي يختص الله به تعالى بعض العباد تفضيلا له على غيره وعناية به كما فضل بعض الرسل على بعض ، وكما فضل هذه الأمة المحمدية على الأمم بإيتائها كفلين من الأجر ، ولا على نحو ما ذكرناه في الكلام في التوفيق حتى يكون المحروم منها مخذولا ، وإنما طول الأعمار وقصرها [ ص: 52 ] والأمراض جارية على وفق المقادير المطردة والسنن العامة ; ولذلك كانت عامة في المؤمن والكافر والبر والفاجر ، فهي كمسألة الرزق في سعته وضيقه ، قال تعالى فيها : ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) ( 17 : 20 ، 21 ) أما كون الآخرة أكبر درجات فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن كل ما في الآخرة من درجات النعيم والكرامة فهو أعظم وأرقى مما في الدنيا . وأما كونها أكبر تفضيلا فلأن التفضيل فيها يتفاوت تفاوتا أعظم مما في الدنيا بما لا يقدر قدره ; ولأنه قسمان : أحدهما : أجر على الأعمال يضاعف لعامة المؤمنين الصالحين عشرة أضعاف ، وثانيهما : فضل لا حد له ، لا جزاء على عمل يكافئه . وبهذا الجواب الذي بيناه لا يبقى مجال لقول الكافر وسؤاله .

                          وأما جواب أبي الحسين البصري على قاعدة أصحابه معتزلة البصرة فله وجه وإن كان الحق في المسألة ما ذكرناه . ورد الرازي عليه تمحل بديهي البطلان ، إذ زعم أن إيصال التفضل إلى أحد الناس يقتضي إيصاله إلى كل أحد ويقبح تركه لأنه ليس شاقا على الله ولا يوجب دخول نقصان في ملكه . وأنه قبيح في الشاهد فيجب أن يكون قبيحا في الغائب ، وضرب له في الشاهد مثل المرآة ، ولولا تعصب المذهب لما كان هذا العالم الكبير والذكي النحرير يقول مثل هذه الأقوال في المسألة ، والقوم يقولون بأن التفضل غير واجب ، إذ الواجب لا يسمى تفضلا . ويقولون : إن وجوب التكليف وجوب جود ; لأنه كمال لا وجوب إلزام وإجبار ، فهو تحكم عليهم في مذهبهم ، وعلل ذلك بأنه ليس شاقا على الله تعالى ولا يوجب نقصا في ملكه ، وهذا التعليل باطل في مذهبه ومذهب الخصم ، ومثل المرآة غير منطبق ، وهو من قياس الخالق على المخلوق ويا له من قياس مع الفارق الذي ليس كمثله فارق .

                          وهذا القول يعد هينا في جنب ما ذكره في الوجهين الأول والثاني من وجوه جعل المعتزلة خصوما لله تبارك وتعالى ، فإنه صور فيهما مسألة إثبات وجوب الثواب والعوض بصورة مشوهة يتبرأ منها ويكفر قائلها كل معتزلي ، وهي أن القائل بهذا الوجوب يقول لربه كيت وكيت ، وهذا من الباطل وقول الزور وإن كان يعني به أن من لوازم ذلك الاعتقاد ، ولا يعني به أن أحدا ينطق بمؤاخذة ربه وتهديده وعزله من الألوهية وشتمه ; لأنه يعلم أن بعضهم يقول : إن هذا وجوب جود وتفضل ، وبعضهم يقول : إنه مقتضى صفات الكمال الواجبة له ، فهل يجوز أن يستنبط من إثبات الفضل والإحسان وغيرهما من صفات الكمال التي لا يعقل معناها إلا بحصول متعلقاتها مثل هذا التنقيص الفظيع ، والكفر المشوه الشنيع ؟ !

                          وجملة القول أن كلا من الفريقين قصد تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، ووصفه بالكمال [ ص: 53 ] الذي لا يعقل معنى الألوهية والربوبية بدونه ، فبالغ بعضهم في الإثبات وبعضهم في النفي . والوسط بين ذلك . وقول الرازي وأمثاله من غلاة الأشعرية في هذا المقام أبعد عن الصواب ; وعن مذهب السلف ، ويمكن أن يستنبط من لوازم رأيهم مثل ما استنبطوا من رأي خصومهم من التشنيع أو أشد ، بل وجد من فعل ذلك ، والحق أن هذه ليست لوازم مقصودة لمذهب هؤلاء ولا هؤلاء ، والجمهور على أن لازم المذهب ليس بمذهب وإن كان لا يظهر على إطلاقه ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) ( 59 : 10 ) . ( 8 ) إن الحديث الذي بني عليه هذا المراء بما قاله القاضي عبد الجبار المعتزلي في الأشعرية وقابله الرازي الأشعري بأفظع من قوله في المعتزلة هو من الأحاديث التي اخترعها بعض هؤلاء المتعصبين لينبز بها بعضهم بعضا . وعبارته مولدة ليست عربية فصيحة . وقد أخرج أوله الدارقطني في العلل من حديث علي " لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا " قال الشيخ محمد الحوت الكبير في كتابه الذي خرج به أحاديث الجامع الصغير الضعيفة قال ابن الجوزي : حديث لا يصح فيه الحارث كذاب ، قال ابن المديني : وكذا فيه محمد بن عثمان . ورواه الطبراني وفيه محمد بن الفضل متروك وأورد الذهبي من عدة طرق وقال : هذه أحاديث لا تثبت ، انتهى . والظاهر أنه يعني بالحارث : الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني صاحب علي كرم الله وجهه ، وقد روى عنه الشعبي وقال : إنه كذاب وكذبه آخرون ووثقه بعضهم . والقول المعتدل فيه أنه ضعيف ، وأكثر هؤلاء المتكلمين ليسوا من أهل الحديث ، بل ينقلون كل ما يرونه في الكتب كالعوام ، ونكتفي في هذا الفصل الاستطرادي بهذا القدر ، ونعود إلى تفسير سائر الآيات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية