( يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) هذا بيان لما يخطر في بال من يقرأ ما قبله أو يسمعه ، فإنه يقول في نفسه : يا ليت شعري كيف يكون حال هؤلاء الظالمين الذين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا بما كانوا يكسبون من الأوزار إذا قدموا على الله يوم القيامة ؟ فجاء الجواب في هذه الآية بأنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لإقامة الحجة عليهم بها فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها ، وقد حققنا معنى المعشر في تفسير الآية 130 فما العهد بها ببعيد . والاستفهام هنا للتقرير التوبيخي ، وقوله : ( رسل منكم ) ظاهره أن كلا من الفريقين قد أرسل الله منهم رسلا إلى قومهم ، والجمهور على أن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات ، كحصر الرسالة في الرجال وجعلها في ذرية نوح وإبراهيم ; ولذلك صرفوا النظم عن ظاهره وقالوا : إن المراد بقوله : ( منكم ) من جملتكم - لا من كل منكم ، وهو يصدق برسل الإنس الذين تثبت رسالتهم إلى الإنس والجن ، وذكروا له شاهدا من القرآن قوله تعالى : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ( 55 : 22 ) بعد قوله : ( مرج البحرين ) ( 55 : 19 ) إلخ . أي الملح والحلو وهو البحيرات وكبار الأنهار ، وهذا مبني على زعمهم أن البحار الحلوة لا يخرج منها لؤلؤ ولا مرجان . والصواب أن اللؤلؤ يخرج من بعضها كبعض أنهار الهند ، ثبت ذلك قطعا واستدركه ( سايل ) مترجم القرآن بالإنكليزية على البيضاوي . وهو مما أخبر به القرآن من حقائق الأكوان التي لم تكن معروفة عند العرب حتى في أيام حضارتهم واستعمارهم للأقطار . ذكر هذا الشاهد وتبعه به من بعده . وروي عن ابن جرير أنه قال في الآية : جمعهم كما جمع قوله : ( ابن جريج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ) ( 35 : 12 ) ولا يخرج من الأنهار حلية انتهى . وقد علمت أن هذا خطأ ، ولفظ هذه الآية أبعد عن هذا التأويل من آية الرحمن بل هو يبطله ، وخرجه بعضهم من باب التغليب كقولهم : أكلت تمرا ولبنا . ( قال ) قال ابن جريج : هم الجن الذين لقوا قومهم وهم رسل إلى قومهم . انتهى . يعني أن الرسل من الجن هم الذين تلقوا منهم الدعوة من رسل الإنس وبلغوها لقومهم من الجن كالذين أنزل الله فيهم قوله في سورة الأحقاف : ( ابن عباس وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) ( 46 : 29 ) الآيات . وهو مبني على جواز تسمية رسول [ ص: 93 ] الرسول رسولا . وذكروا أن منه رسل أصحاب القرية في أوائل سورة " يس " ( 36 : 13 - 20 ) وذكر أن المسألة خلافية ، وروي أن ابن جرير الضحاك سئل عن الجن هل كان فيهم نبي قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فقال للسائل : ألم تسمع إلى قول الله : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) فقالوا : بلى ؟ وذكر أن الذين يقولون بقول الضحاك يردون التأويل السابق بأنه خلاف المتبادر من اللفظ ، ولو صدق في رسل الجن لصدق في رسل الإنس لعدم الفرق . وذكر غيره أن الضحاك استدل على ذلك بقوله تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( 35 : 24 ) ومثله قوله : ( ولكل أمة رسول ) ( 10 : 47 ) وقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) ( 16 : 36 ) مع ضميمة إطلاق لفظ الأمة على جميع أنواع الأحياء لقوله تعالى : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ( 6 : 38 ) وتقدم في تفسيره أن بعض الصوفية قال بتكليف الحيوانات واستدلوا بآية ( 35 : 24 ) وأن الشعراني ذكر في الجواهر أنه يجوز أن يكون نذرها منها وأن يكونوا من غيرها ، واستدل أيضا بقوله تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) ( 6 : 9 ) أي بناء على استئناس الجنس بالجنس وفهمه عنه ، وقد يرد هذا بأنه ثبت في القرآن أن الجن يفهمون من رسل الإنس . وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعي ، والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس لأن الكلام معهم ، وليست أقوى من ظاهر الآيات التي استدل بها على كون الرسل من الفريقين والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص ، وقد دل القرآن - وكذا الحديث الصحيح - على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إليهم ، وحكى تعالى عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا : ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) ( 46 : 30 ) فظاهره أنه كان مرسلا إليهم . فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله تعالى ، ثم إنه تعالى وصف الرسل الذين أرسلهم إلى الفريقين منهم بقوله : ( يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) أي يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليكم المبينة لأصول الإيمان ، ومكارم الأخلاق وحسنات الأعمال التي يترتب عليها صلاح الأحوال وسلامة المآل وينذرونكم لقاء يومكم هذا بإعلامكم ما يقع فيه من الحساب والعقاب على من كفر عن جحود أو ارتياب .
( قالوا شهدنا على أنفسنا ) هذا ما حكاه تعالى من جوابهم عن السؤال عندما يؤذن لهم في مواقف القيامة بالكلام ، وثم مواقف أخرى لا ينطقون فيها ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، ومواقف يكذبون فيها على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأعمالهم ، وتقدم شيء [ ص: 94 ] من ذلك ، وجوابهم هذا وجيز يدل على أنهم يعترفون بكفرهم ويقرون بإتيان الرسل وبلوغهم دعوتهم منهم أو ممن نقلها عنهم . وأنهم كذبوا واتبعوا أهواءهم ; ولذلك قال : ( وغرتهم الحياة الدنيا ) أي غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة والسلطان على الناس ، ورأوا من دعوة الرسل في عصرهم أن اتباعهم إياهم يجعل الرئيس منهم مرءوسا ومساويا لضعفاء المؤمنين في جميع الحقوق والمعاملات . وقد يكرمون عليه بما يفضلونه به من التقوى وصالح الأعمال ، وكذلك حال من على مقربة من الرؤساء والزعماء بشجاعتهم أو ثروتهم أو عصبيتهم ، فهؤلاء كانوا يكفرون بالرسل كفر كبر وعناد يقلدهم فيه كثير من أتباعهم تقليدا ، فيغتر كل منهم بما يعتز به من التعاون مع الآخر . وكان عصر الخلفاء الراشدين نحوا من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المساواة ، ولكنه اختلف عنه بما تجدد للإسلام من الملك والثروة والقوة ، ولم يكن ذلك مانعا من الارتداد عنه لما علم أن لجبلة بن الأيهم عمر يقتص منه لأحد السوقة .
وأما غرور أهل هذه الأعصار بالدنيا المانع لهم من اتباع الرسل ، فهو ما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل المذمومين في كل دين ، وقد زالت من أكثر البلاد الحكومات الدينية التي كان أهل الدين يعتزون بها ، وحل محلها حكومات مادية لا يرتقي فيها ولا ينال الحظوة عند أهلها من يتبع الرسل ، بل لم يعد هذا الاتباع سببا من أسباب نعيم الدنيا ورياستها المشروعين ، فما القول بالمحظورين . وهذا على خلاف الأصل في الدين فإنه شرع ليكون سببا لسعادة الدنيا والآخرة ، ولكن الناس لبسوه مقلوبا حتى جهلوا حقيقته ، ولا سيما دين الإسلام الكامل المكمل المتمم بجمعه بين حاجة الروح والجسد وجميع مصالح الاجتماع والسيادة بالحق . ولو كان للإسلام ملك قوي في هذا العصر لقل في اللابسين لباسه النفاق والفسوق - دع الكفر والمروق - ولدخل الناس فيه من سائر الأمم أفواجا .
( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) أي وشهدوا في ذلك الموقف من مواقف ذلك اليوم إذ تقوم الحجة عليهم بأنهم كانوا في الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل ; إذ لا يجدون فيه مجالا للكذب والمكابرة ولا للتأويل . وليس الكفر بما جاء به الرسل محصورا في تكذيبهم بالقول ، بل منه عدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنة الله تعالى في الطباع والأخلاق وترتب الأعمال عليها ، فالكفر نوعان : عدم الإيمان بما جاء به الرسول ، وعدم الإسلام له بالإذعان والعمل . والذنب العارض لا ينافي الإسلام كما فصل مرارا .