( وبالوالدين إحسانا ) أي والثاني مما أتلوه عليكم ، أو مما وصاكم به ربكم أن تحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا ، ولا تألون فيه جهدا ، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت ، فكيف بالعقوق المقابل لغاية الإحسان وهو من أكبر كبائر المحرمات ، وقد تكرر في القرآن القران بين التوحيد والنهي عن الشرك وبين الأمر بالإحسان للوالدين . وتقدم بعضه في سورة البقرة والنساء ، وسيأتي أوسع تفصيل فيه في وصايا سورة الإسراء ( أو بني إسرائيل ) التي بمعنى هذه الوصايا في هذه السورة ، وفيه النهي عن قول " أف " لهما وقد اختير في هذه الآية وأمثالها الأمر بالواجب من الإحسان على النهي عن مقابله المحرم وهو الإساءة مطلقا ، للإيذان بأن الإساءة إليهما ليس من شأنها أن تقع فيحتاج إلى التصريح بالنهي عنها في مقام الإيجاز ; لأنها خلاف ما تقتضي الفطرة السليمة والآداب المرعية عند جميع الأمم . وقد سبق في تفسير مثل هذه الجملة أن الإحسان يتعدى بـ " الباء " و " إلى " فيقال : أحسن به وأحسن إليه ، والأولى أبلغ ، فهو بالوالدين وذي القربى أليق ; لأن من أحسنت به هو من يتصل به برك وحسن معاملتك ، ويلتصق به مباشرة على مقربة منك وعدم انفصال عنك - وأما من أحسنت إليه فهو الذي تسدي إليه برك ولو على بعد أو بالواسطة إذ هو شيء يساق إليه سوقا . ولم ترد هذه التعدية في التنزيل إلا في تعبيرين في مقامين : ( أحدهما ) التعبير بالفعل حكاية عن يوسف عليه السلام في سورته ، وهو قوله لأبيه وإخوته : ( هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ) ( 12 : 100 ) . ( والثاني ) التعبير بالمصدر المفيد للتأكيد في أربع سور : البقرة والنساء وقد عطف فيهما ذو القربى على الوالدين بالتبع - والأنعام والإسراء . وفي سورة الأحقاف : ( والمبالغة في مقام الإحسان بالوالدين ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ) ( 46 : 15 ) كما قرأ الكوفيون من السبعة وقرأه الباقون ( حسنا ) كآية سورة العنكبوت التي رويت كلمة إحسانا فيها من الشواذ . والظاهر أن الباء فيهما متعلقة بوصينا .
ولو لم يرد في التنزيل إلا قوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) ولو غير مكرر لكفى في الدلالة على عظم عناية الشرع بأمر الوالدين ، بما تدل عليه الصيغة والتعدية ، فكيف وقد قرنه بعبادته وجعله ثانيها في الوصايا ، وأكده بما أكده به في سورة الإسراء ، كما قرن شكرهما بشكره في وصية سورة لقمان فقال : ( أن اشكر لي ولوالديك ) ( 31 : 14 ) وورد في معنى التنزيل عدة أحاديث نكتفي منها بحديث رضي الله عنه في الصحيحين عبد الله بن مسعود والترمذي قال : والنسائي : " قلت : ثم أي ؟ قال " الجهاد في سبيل الله بر الوالدين " فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو أكبر الحقوق العامة على الإنسان . ذلك كله بأن حق الوالدين على الولد أكبر من جميع حقوق الخلق عليه ، وعاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة ، فمن قصر في بر والديه والإحسان بهما كان فاسد الفطرة مضياعا للحقوق كلها فلا يرجى منه خير لأحد . وقد بالغ بعض العلماء في الكلام على بر الوالدين حتى جعلوا من مقتضى الوصية بهما أن يكون الولد معهما كالعبد الذليل مع السيد القاسي الظالم ، وقد أطمعوا بذلك الآباء الجاهلين المريضي الأخلاق حتى جرءوا ذا الدين منهم على أشد مما يتجرأ عليه ضعفاء الدين من القسوة على الأولاد وإهانتهم وإذلالهم ، وهذا مفسدة كبيرة لتربية الأولاد في الصغر ، وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر ، وإلى ظلم أولادهم كما ظلمهم آباؤهم ، وحينئذ يكونون من أظلم الناس للناس ، وقد فصلنا القول في ظلم الوالدين للأولاد وتحكمهما في شئونهم ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون ، في تفسير آية النساء ( راجع صفحة 70 وما بعدها ج 5 ط الهيئة ) وكم أفسدت الأمهات بناتهن على أزواجهن . والصواب أنه يجب على الوالدين تربية الأولاد على حبهما واحترامهما احترام المحبة والكرامة ، لا احترام الخوف والرهبة ، وسنفصل ذلك في تفسير آيات سورة الإسراء إن أحيانا الله تعالى ووفقنا . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العلم أفضل ؟ قال : [ ص: 164 ] " الصلاة على وقتها " وفي رواية لوقتها . قلت : ثم أي ؟ قال : "