: منشأ فكرة ترجمة القرآن وسببها
لقد كان ضعف الخلافة القرشية بجهل الخلفاء وترفهم وفسقهم سببا لتفرق المسلمين فتخاذلهم فضعفهم ، إذ كان سببا لتأسيس عدة دول إسلامية تتنازع السلطة ، ولضعف اللغة العربية ، وترك الأعاجم ، فاضطرارهم إلى ترجمة بعض الكتب الدينية ، وتدريس العربية منها بالترجمة ، فالشعور بالحاجة إلى ترجمة القرآن نفسه بلغاتهم لأجل فهمه بالإجمال ، ثم بالحاجة إلى ترجمته بسائر اللغات لأجل الدعوة بترجمته إلى الإسلام ، ولما انفردت دولة الترك العثمانيين دون سائر دول الأعاجم الإسلامية بجعل لغتهم رسمية لها ، ثم بادعاء منصب الخلافة لسلطانها اقتضى ذلك تعمد هذه الدولة لإضعاف الأمة العربية ولمعاداتها ، ولتفضيل لغة أبناء جنسهم على لغة كتاب ربهم وسنة رسولهم ، ثم لتفضيل رابطة جنسهم ولغتهم على رابطة دينهم ، ثم للاستغناء عن هذا بتلك ، ومن ثم صارت جامعة اللغة والقومية معارضة للجامعة الإسلامية ، وسببا لمعاداتها . ثم تجدد لدعاة العصبية الجنسية التركية سبب آخر لترجمة القرآن وهو التمهيد به إلى المروق من الإسلام ، ولم يفعل هذا إلا الترك الذين نالوا بالإسلام دون غيره ما نالوا من العز والملك الكبير .
[ ص: 273 ] إن ملاحدة الترك ودعاة العصبية الجنسية منهم قد بثوا في قومهم فكرة الاستغناء عن القرآن المنزل من الله تعالى باللسان العربي بترجمته باللسان التركي قبل عهد الحرية الدستورية بسنين ، وقد أنكرنا هذا عليهم قولا وكتابة ، وأول من سمعنا منه هذا الرأي محمد عبيد الله أفندي الذي صار بعد الدستور مبعوثا ، وأنشأ في الآستانة جريدة عربية باللغة العربية ؛ لأجل خداع العرب وإضلالهم سمعت هذا الرأي الفاسد منه في مصر ، ورددت عليه فيه ، ثم سمعته في الآستانة من غيره أيضا وأنكرته عليهم ، وقد ذكرته في مواضع من مجلد المنار الثالث عشر .
( منها ) قولنا في ( الفتوى 27 ص343 ج 5 م13 الذي صدر في سلخ جمادى الأولى سنة 1327 ) في سياق تخطئة محمد عبيد الله أفندي في ادعائه أن الإسلام نشر بالإكراه عليه بالسيف : .
" ليست هذه المسألة هي التي شذ فيها وحدها هذا الرجل ، فإن له شذوذا في مسائل أخرى دينية ، وتاريخية كادعائه أن نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تمت ولا تتم إلا بترجمة القرآن إلى جميع اللغات ، وكادعائه أن غير العرب من المسلمين يمكنهم الاستغناء في دينهم عن معرفة اللغة العربية ، وعن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى آية للعالمين ، معجزا للبشر على مر السنين ، بترجمته إلى التركية والفارسية وغيرهما من اللغات ، وإن كان المترجم يترجم حسب فهمه فيختلف مع غيره ، فيكون لكل أهل لغة قرآن ، وإن كانت الترجمة لا يمكن أن يتحقق فيها الإعجاز كالقرآن المنزل من عند الله تعالى ، ولا يصح التعبد بتلاوتها ، ولا يتحقق فيها غير ذلك من خصائص القرآن ، وقد سبق لي مناظرة معه في هذه المسألة بمصر منذ سنين اهـ .
ومنها - ما ذكرته في ( ج 7 منه ص 549 ) في سياق سمر مع طلعت بك ( باشا ) ناظر الداخلية بداره في الآستانة ذكر لي فيه أن هذا الرجل سينشئ جريدة عربية ؛ لأجل التآلف بين العرب والترك ، فذكرت له أنه يخشى أن يكون تأثيرها زيادة الشقاق لما هو معروف به من كراهة العرب ، وزعمه إمكان استغناء الترك عن لغتهم وعن قرآنهم العربي بترجمته بالتركية إلخ وكذلك كان .
ومنها - قولنا في مناجاة الله تعالى ( في ص384 منه ) : اللهم إنك تعلم أن من هؤلاء ( أي المفسدين ) من يفوق سهام كيده ومكره للأمة العربية التي شرفتها وفضلتها بخاتم أنبيائك ورسلك ، وخير كتبك المنزلة لهداية خلقك وخاطبت سلفها الصالح بقولك الحق : كنتم خير أمة أخرجت للناس ( 3 : 110 ) إلخ .
" اللهم إنهم حسدوها أن جعلت كتابك عربيا مبينا ، فهم يريدون ترجمته ليكون عرضة لتحريف المحرفين ، واختلاف المتفقين ، اللهم إنك أنزلته لتجمعهم عليه ، وهم يحاولون ترجمته لكل شعب من المسلمين ليتفرقوا فيه ، اللهم إنه حبلك المتين الذي أمرتنا أن نعتصم به [ ص: 274 ] ولا نتفرق عنه بقولك : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ( 3 : 103 ) وهو بيناتك التي قلت فيها : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ( 3 : 105 ) .
" اللهم إنهم يزعمون أن رسالة خاتم رسلك ما تمت إلى الآن . وأنها لا تتم إلا بترجمة القرآن ، وأنت قلت وقولك الحق : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( 5 : 3 ) .
ومنها - قولنا في آخر الفتوى 32 منه ( ص571 ) في سياق الدعوة إلى الاهتداء بالكتاب والسنة : ولا يتم هذا الاهتداء إلا بالعناية باللغة العربية ، ولا شيء أضر على الإسلام في هذا العصر ممن يدعو إلى ترجمة القرآن إلى اللغات المختلفة ; ليستغني المسلمون بالترجمة عن القرآن المنزل من عند الله تعالى بلسان عربي مبين . فالغاية من هذه المفسدة إذا وقعت ( لا سمح الله ) أن يكون الأعاجم من المسلمين عرضة لترك الدين . وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى اهـ .
وقد راجت دعوة ملاحدة الترك إلى الاستغناء عن كتاب الله المنزل بعد قبض ملاحدة جمعية الاتحاد والترقي على أعنة الدولة العثمانية ، تمهيدا منهم لما نفذه أندادهم الكماليون من بعدهم من نبذ الدولة التركية لأحكام الإسلام ، وسعيها لسل الشعب التركي منه أيضا .
وقد كان مما نشر الاتحاديون من الكتب الممهدة لهذا السبيل ( كتاب قوم جديد ) الذي انتقدناه ونشرنا ترجمة بعض مسائله في المجلد السابع عشر من المنار ( سنة 1335 ) والمراد بكلمة ( قوم جديد ) إنشاء شعب تركي غير مسلم . ومما قلناه في آخر مقال طويل منه ( ص160 ج2 م17 ) عنوانه ( مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين ) ما نصه : " يرى هؤلاء العاملون أنه ليس في طريقهم عقبة تحول دون بلوغ المقصد بالسرعة التي يبغون من وراء هذا العمل إلا حاجة الترك إلى اللغة العربية ؛ لأجل الدين . ويرون أن هذا الدين ولغته مما يعيق تكوين أمة تركية محضة على الطراز الإفرنجي الفرنسي ، فاجتهدوا في إزالة هذا المانع بمزيلين : ( أحدهما ) ترجمة القرآن بالتركية ، ودعوة الترك إلى الاستغناء عن القرآن العربي بما سموه القرآن التركي ، وإذا استغنوا عن القرآن يستغنون بالأولى عن غيره من كتب الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم والفنون العربية .
( الثاني ) نشر الكتب والرسائل التي تجعل الجنسية التركية أعلى وأسمى في النفوس من رابطة الدين تمهيدا للثانية بالأولى . . . .
( وذكرنا من هذه الكتب كتاب " قوم جديد " وأشرنا إلى بعض مفاسده ) ثم نشرنا نموذجا من كتاب ( قوم جديد ) هذا في ( ص539 - 544 منه ) أوله قوله في ( ص14 منه ) : [ ص: 275 ] يجب تعطيل جميع المساجد والتكايا الموجودة في الآستانة ما عدا الجوامع التي بناها السلاطين وتخصيص نفقاتها بالشئون الحربية والعسكرية ، كما ورد في الآيات الكريمة والأعمال النبوية ( ؟ ) ويليه قوله في ص15 بفرضية ترجمة القرآن .
ومنه ما ذكره من صفات من سماهم ( قوم عتيق ) من تمسكهم بالصوم والصلاة والحج والزكاة والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة التي وصفها بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق ، وزعم أن العمل بها غير جائز - ثم قال في صفات ( قوم جديد ) ما نصه : " وأما القوم الجديد فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة ، بل استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية : ( 1 ) العقل . ( 2 ) كلمة الشهادة . ( 3 ) الأخلاق الحسنة . ( 4 ) الجهاد مالا وبدنا والحرب . ( 5 ) السعي لإعداد لوازم الحرب . . . إلخ ثم بسطنا هذه المسائل من وسائل ومقاصد في المجلد التاسع عشر ، وقد صدق كل ما قلناه وارتأيناه من مقاصد ملاحدة الترك ما فعلته الحكومة الكمالية من إلغاء الأحكام الشرعية كلها ، وجعل جميع سياستها وأحكامها حتى الشخصية مدنية أوربية ، وإلغاء الأحكام الشرعية ، والأوقاف الإسلامية والمدارس الدينية - دع إلغاء ما عمل باسم الدين من المبتدعات كتكايا أصحاب الطرق مقلدة المتصوفة إلخ . صدقوا بالفعل كل ما قلناه من مقاصدهم ، وكان بعض المسلمين الجاهلين بحال الدولة التركية ، وتأثير التفرنج فيها ينكرون علينا ما نقوله عن علم وخبرة وغيرة على الإسلام ظنا منهم أنه إضعاف للدول حامية الإسلام ، وإنما كان حرصا على تقوية الدولة بالإسلام ، وتقوية الإسلام بالدولة ; لأننا نعلم مالا يعلمون من إفضاء هذه الضلالات والعصبية الجنسية إلى إضاعة هؤلاء المتعصبين المفتونين للإسلام وللدولة معا - وكذلك كان .
وقد كان بعض الترك الروسيين استفتانا في مسألة الترجمة قبل أن نعلم بهذا الغرض الفاسد فأفتيناه فيها لذاتها ; إذ لم يكن يخطر ببالنا أن أحدا من المسلمين يتوسل بذلك إلى إخراج شعب إسلامي من الإسلام - وهذا نص السؤال والجواب : ( فتوى المنار في حظر ترجمة القرآن )
نشرت في ص 268 - 274م 11 ج4 منه المؤرخ 29 ربيع الآخر سنة 1326 ( س1 ) من الشيخ أحسن شاه أفندي أحمد ( من روسيا ) .
حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا : نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المهمة : ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه " بشائر صدق نبوت " ما ترجمته : [ ص: 276 ] إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين وجميع المباحثات التي دارت بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة ، وذلك لوجوه : ( الأول ) أن ترجمته بالتمام غير ممكنة لإعجازه من جهة البلاغة . ( والوجه الثاني ) أن فيه كثيرا من الكلمات لا يوجد لها مقابل في اللغة التي يترجم إليها ، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير . ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضا وهلم جرا ، فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره . ( الوجه الثالث ) أن كلمات الكتب السماوية يستخرج منها بعض إشارات وأحكام بطريق الحساب ، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق ، مثال ذلك أن سعدي جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن وسورة الناس التي هي آخر سورة تكون الحروف الباقية ثلاثة وعشرين . قال : وفي ذلك إشارة إلى مدة سني النبوة المحمدية - فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي هي من جملة معجزاته انتهى " من بشائر صدق نبوت " .
أما أدباؤنا معشر الترك الروسيين ، فإنهم مصرون على ترجمته ويقولون : لا معنى للقول بأنه لا يجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم ; فلذا يذهبون إلى وجوب ترجمته ، وهو الآن يترجم في مدينة قزان ، وتطبع ترجمته تدريجا ، وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية القفقاز ، فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة .
حرره الإمام الحقير أحسن شاه أحمد
الكاتب الديني السماوي
( جواب المنار له ) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم ألا يبينوا معاني القرآن لأهل كل لغة بلغتهم ، ولو بترجمة بعضه ; لأجل دعوة من ليس من أهله إليه ، وإرشاد من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة ، وإن من زلزل المسلمين في دينهم أن يتفرقوا إلى أمم تكون رابطة كل أمة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله ، المعجز بأسلوبه وبلاغته وهدايته ، المتعبد بتلاوته ، اكتفاء بأفراد من كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بحسب ما يفهم المترجم .
هذا الزلزال أثر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين . زين لنا أن نتفرق وننقسم إلى أجناس ، ظانا كل جنس منا أن في ذلك حياته ، وما ذلك إلا موت للجميع .
[ ص: 277 ] ولا نطيل في هذه المسألة هنا ، ولكننا نذكر شيئا مما يخطر في البال من مفاسد هجر المسلمين للقرآن المنزل ( بلسان عربي مبين ) - استغناء عنه بترجمة أعجمية يغنيهم عنها تفسيره بلغتهم مع المحافظة على نصه المتواتر المحفوظ من التحريف والتبديل - مع مراعاة الاختصار فنقول : ( 1 ) إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة كما يعلم من المسائل الآتية ، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن ، أو فهم من عساه يعتمد هو على فهمه من المفسرين ، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن ، وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب ، ولا يحصل بذلك المقصود المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره .
( 2 ) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي ، بل هو الدين كله ; إذ السنة ليست دينا إلا من حيث إنها مبينة له ، فالذين يأخذون بترجمته يكون دينهم ما فهمه مترجم القرآن لهم ، لا نفس القرآن المنزل من الله تعالى على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والاجتهاد بالقياس إنما هو فرع عن النص ، والترجمة ليست نصا من الشارع ، والإجماع عند الجمهور لا بد أن يكون له مستند والترجمة ليست مستندا . فعلى هذا لا يسلم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآنا شيء من أصول الإسلام .
( 3 ) إن القرآن منع التقليد في الدين وشنع على المقلدين . فأخذ الدين من ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه ، فهو إذا خروج عن هداية القرآن لا اتباع لها .
( 4 ) يلزم من هذا حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به المؤمنين في قوله قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ( 12 : 108 ) وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمال عقله وفهمه فيما أنزل الله " .
( 5 ) كما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية يلزم منع الاجتهاد والاستنباط من عبارة المترجم ; لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم .
( 6 ) إن من يعرف لغة القرآن ، وما يحتاج إليه في فهمه كالسنة النبوية ، وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورا بالعمل بما يفهمه من القرآن ، وإن أخطأ في فهمه ; لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له ، كما يعلم ذلك من معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيمم إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها ، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه عن صلاة العصر إلا في بني قريظة ; ولذلك شواهد أخرى ، ولا إخال مسلما يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية .
[ ص: 278 ] ( 7 ) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية ، لا تخلق جدته ، ولا تفتأ تتجدد هدايته وتفيض للقارئ على حسب استعداده حكمته ، فربما ظهر للمتأخر من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله ، تصديقا لعموم حديث : " " وترجمته تبطل هذه المزية ، إذ تفيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم بحسب فهمه ، مثال ذلك أن المترجم قد يجعل قوله تعالى : فرب مبلغ أوعى من سامع وأرسلنا الرياح لواقح ( 15 : 22 ) من المجاز بالاستعارة ، أي أن اتصال الريح بالسحاب ، وحدوث المطر عقب ذلك يشبه تلقيح الذكر للأنثى ، وحدوث الولد بعد ذلك كما فهم بعض المفسرين ، فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي يترجم بها لفظ يقوم مقام ( لواقح ) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أطلق فإن القارئين يتقيدون بهذا الفهم ، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه ، وهو كون الرياح لواقح بالفعل ، إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه ، فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمة حرفية فإن هناك أمثلة أخرى ، وحسبنا أن يكون هذا موضحا والترجمة تقف بنا عند حد من الفهم يعوزنا معه الترقي المطلوب .
( 8 ) ذكر في كتاب " إلجام العوام عن علم الكلام " أن الغزالي غير جائزة ، واستدل على ذلك بما هو واضح جدا . وقد ذكرنا عبارته في تفسير : ترجمة آيات الصفات الإلهية هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( 3 : 7 ) وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر .
( 9 ) ذكر في الاستدلال على ما تقدم أن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها - أي ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله المترجم في مثل هذه الألفاظ ، وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يوقع قارئ ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن ؟ ( 10 ) قد ذكر ذلك أيضا : أن من الألفاظ العربية مالها فارسية تطابقها " لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها لها " فإذا أطلق المترجم اللفظ الفارسي يكون هنا مؤديا المعنى الحقيقي للفظ العربي . وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي ، ومثل الفرس غيرهم من الأعاجم . وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأفعاله . الغزالي
( 11 ) ذكر أيضا في هذا المقام : أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركا في العربية ، ولا يكون في العجمية كذلك . فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنى المشترك ، ولا يخفى ما فيه ، وقد مر نظيره آنفا .
[ ص: 279 ] ( 12 ) من المقرر عند العلماء أنه إذا ظهر دليل قطعي على امتناع ظاهر آية من آيات القرآن فإنه يجب تأويلها حتى تتفق مع ذلك الدليل ، والفرق بين تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل لاسيما في الآيات المتشابهة والألفاظ المشتركة .
( 13 ) إن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيرا خاصا في نفس السامع لا يمكن أن ينقل بالترجمة ، وإذا فات يفوت بفوته خير كثير ، فيا طالما كان جاذبا إلى الإسلام ، حتى قال أحد فلاسفة أوربا وهو فرنسي نسيت اسمه : إن محمدا كان يقرأ القرآن بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به ، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن غيره من الأنبياء من المعجزات ، وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرة الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آيات من القرآن ، فقال لي الدكتور فارس أفندي : إن لهذه القراءة تأثيرا عميقا في النفس . ثم لما كتب خبر الاحتفال في جريدته ( المقطم ) كتب ذلك ، فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به ، فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم .
( 14 ) إذا ترجم التركي والفارسي والهندي والصيني . . . إلخ . القرآن ، فلا بد أن يكون بين هذه التراجم من الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد الجديد عند النصارى ، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات التي كنا نقرؤها ، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها ، فكيف نختارها بعد ذلك لأنفسنا ؟ .
( 15 ) إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل هو الآية الباقية من آيات النبيين ، وإنما يظهر كونه آية باقية محفوظة من التغيير والتبديل ، والتحريف والتصحيف ، بالنص الذي نقلناه عمن جاء به من عند الله ، والترجمة ليست كذلك .
هذا ما تراءى لنا من الوجوه المانعة من ترجمته للمسلمين ; ليكون لهم قرآن أعجمي بدل القرآن العربي ، وإن كان بعض هذه الوجوه مما يمكن إدخاله في البعض - وإنما ذكر هكذا ; لزيادة الإيضاح - فإن هناك وجوها أخرى يمكن استنباطها لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن ، بل منها ما تركناه مع تذكره .
وأما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أن عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب بقائه غير مفهوم فهي ممنوعة ، فإننا نقول : إن فهمه سهل ، ولكن ليس لأحد أن يجعل فهمه حجة على غيره فكيف يجعله دينا لشعب برمته ؟ وإن لاهتداء المسلم الأعجمي بالقرآن درجتين ، درجة دنيا بالعوام الذين لا يتيسر لهم طلب العلم فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة ; لأجل قراءتها في الصلاة ، ويترجم لهم تفسيرها ، وتقرأ أمامهم في مجالس [ ص: 280 ] الوعظ بعض الآيات ، ويذكر لهم تفسيرها بلغتهم كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين ، ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم ، وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير مقلدين لأحد منهم .
إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن للإسلام لغة خاصة به ، لا بد أن تكون عامة بين أهله ليفهموا كتابه الذي يدينون به ويهتدون بهديه ، ويعبدون الله بتلاوته ; ولتتحقق بينهم الوحدة المشار إليها بقوله فيه : إن هذه أمتكم أمة واحدة ( 21 : 92 ) ويكونوا جديرين بأن يعتصموا به وهو حبل الله فلا يتفرقوا ، ولتكمل فيهم أخوة الإسلام التي حتمها عليهم بقوله : إنما المؤمنون إخوة ( 49 : 10 ) ; ولذلك انتشرت اللغة العربية في البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة مع عدم وجود مدارس ولا كتب ولا أساتذة للتعليم ، واستمرت الحال على ذلك في زمن الأمويين في الشرق والغرب وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغة الملايين من الأوربيين والبربر والقبط والروم والفرس وغيرهم في ممالك تمتد من المحيط الغربي ( الأتلانتيك ) إلى بلاد الهند ، فهل كان هذا إلا خيرا عظيما تآخت فيه شعوب كثيرة ، وتعاونت على مدنية كانت زينة للأرض وضياء ونورا لأهلها .
ثم هفا في الشرق هفوة سياسية حركت العصبية الجنسية في المأمون الفرس فأنشؤوا يتراجعون إلى لغتهم ، ويعودون إلى جنسيتهم ، وجاء الأتراك ففعلوا بالعصبية الجنسية ما فعلوا ، فسقط مقام الخلافة وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك الطوائف ، ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم ، وإبقاء القرآن العربي المنزل خاصا بالعرب ، بل بقي الدين والعلم عربيين وراء إمامهما الذي هو القرآن .
فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوحدة الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام ، وأن يستعينوا على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم ، فيجعلوا تعلم العربية إجباريا في جميع مدارس المسلمين ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية لا يتقيدون فيها بآراء المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية والسياسية ، ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية حتى صار بعضهم يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل ! ألا إنها فتنة في الأرض وفساد كبير وقى الله المسلمين شرها . فهذا ما أقوله الآن في ترجمة القرآن للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إماما لهم ، ودون ترجمته لدعوة غيرهم به إلى الإسلام مع أن المترجم بين المعنى الذي يفهمه هو . انتهت الفتوى .
وملخص هذه الفتوى : أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية متعذرة ويترتب عليه مفاسد [ ص: 281 ] كثيرة ، فهو محظور لا يبيحه الإسلام ; لأنه جناية عليه وعلى أهله ، ولا يجوز أن تسمى الترجمة قرآنا ولا كتاب الله ، ولا أن يسند شيء منها إليه تعالى فيقال قال : الله كذا ; لأن كتاب الله وقرآنه عربي بالنص القطعي والإجماع الشرعي من سلف أهل الملة كلهم وخلفهم لا الإجماع الأصولي المختلف فيه ; ولأنها ليس لها شيء من خصائص القرآن اللفظية ولا المعنوية كالإعجاز ، وهي لا بد أن تكون مخالفة له في المعنى كمخالفتها في اللفظ ، فإسنادها إليه تعالى كذب عليه وكفر بكتابه . بل أجمع المسلمون على أنه لا يجوز إبدال لفظ من ألفاظ المصحف بلفظ آخر يرادفه من اللغة العربية ككلمتي " شك ، وريب " في قوله تعالى : ذلك الكتاب لا ريب فيه ( 2 : 2 ) وأما الترجمة المعنوية التي هي عبارة عن تفسير ما يحتاج إلى تفسيره منه بلغة أخرى فغير محرم ، وإنما تتبع فيه المصلحة الشرعية بقدرها .