ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون بين تعالى في الاستطراد الخاص بنبوة خاتم الرسل ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابة رحمته للذين يتبعونه من قوم موسى وعيسى عليهما السلام ، وقال في متبعيه : أولئك هم المفلحون أي : دون غيرهم من الذين كفروا به ، ولم يتبعوا النور الذي أنزل معه بعد بعثته وبلوغ دعوته . وذلك لا ينافي كون المتبعين لموسى حق الاتباع قبل بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هدى وحق وعدل ، وأنهم من المفلحين ، فإن ما أفادته جملة أولئك هم المفلحون من الحصر إضافي لا حقيقي كما [ ص: 307 ] أشرنا إليه آنفا ، وبيناه في تفسير تلك الآية ; ولذلك بين سبحانه في هذا الآية حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الاتباع ، عاطفا إياهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : .
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون أي : ومن قوم موسى ( أيضا ) جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله تعالى ، ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس ، لا يتبعون فيه الهوى ، ولا يأكلون السحت والرشى . فالظاهر المتبادر أن هؤلاء ممن كانوا في عصره وبعد عصره حتى بعد ما كان من ضياع أصل التوراة ثم وجود النسخة المحرفة بعد السبي ، فإن الأمم العظيمة لا تخلو من أهل الحق والعدل . وهذا من بيان القرآن للحقائق ، وعدله في الحكم على الأمم ، كقوله : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ( 3 : 75 ) وقيل في وجه التناسب والاتصال : إنه ذكر هؤلاء من قومه في مقابل متخذي العجل للدلالة على أنهم كانوا بعض قومه لا كلهم ، وهو جائز على بعد يقدر بقدر بعد هذه الآية عن قصة العجل ، وما قلناه أظهر .
( فإن قيل ) : إن قوله : " يهدون ويعدلون " للحال المفيد الاستمرار ( قلنا ) : إن أمثاله مما حكى فيه حال الغابرين وحدهم بصيغة المضارع كثير ، ووجهه أن التعبير لتصوير الماضي في صورة الحاضر ، وما هنا يشمل أهل الحق من قوم موسى إلى زمن نزول هذه السورة ممن لم تكن بلغتهم دعوة النبي الأمي خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهم الذين كانوا كلما بلغت أحدا منهم الدعوة قبلها وأسلم ، وقد ورد في وصفهم آيات صريحة وحمل بعضهم هذه الآية التي نفسرها عليهم وحدهم .
قالوا : إن المراد بهؤلاء الأمة من آمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علماء أهل الكتاب وأضرابه . ونقول : إنه نزل في هؤلاء آيات صريحة كقوله في آخر سورة آل عمران : كعبد الله بن سلام وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ( 3 : 199 ) وهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ليست صريحة في هذا ، بل السياق ينافيه ; لأنها جاءت بعد بيان حال الذين يؤمنون به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فالمتبادر فيها أنها في خواص قوم موسى في عهد موسى ، وبعد عهده ومنهم النبيون والربانيون والقضاة العادلون ، كما يعلم بالقطع من آيات أخرى . فالآيات في الخيار من أهل الكتاب ثلاثة أنواع : ( 1 ) الصريحة في الذين أدركوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآمنوا قبل إيمانهم أو بعده كقوله تعالى في سورة البقرة : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ( 2 : 121 ) وقوله في سورة القصص : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله : أولئك يؤتون أجرهم مرتين [ ص: 308 ] ( 28 : 52 - 54 ) الآيات ومثلهن في سورة الأنعام والرعد والإسراء والقصص والعنكبوت إلخ .
( 2 ) الصريحة في الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام واستقاموا معه ، ثم في عهد من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن بصدد تفسيرها . ( 3 ) المحتملة للقسمين كقوله تعالى : من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ( 3 : 113 - 115 ) إلخ فراجع تفسيرهن [ في ص58 - 61 ج 4 ط الهيئة ] .
وفي تفسير الأمة هنا خرافات إسرائيلية ذكر بعضها عن ابن جرير أنه قال : بلغني كذا ، وذكر أن سبطا من ابن جريح بني إسرائيل ساروا في نفق من الأرض فخرجوا من وراء الصين إلخ ، وذكر عن ما يؤيد هذا بدون سند . ابن عباس على سعة علمه وروايته وعبادته شر المدلسين تدليسا ; لأنه لا يدلس عن ثقة ، وأئمة الجرح والتعديل لا يعتدون بشيء يرونه بغير تحديث ، ونقل هذه الخرافة كثيرون ، وزادوا فيها ما عزوه إلى غيره أيضا وبحثوا فيها مباحث ، ولا يستحق شيء من ذلك أن يحكى . وابن جريج