ولكن ورد في أحاديث وآثار لا يمكن أن تعرف إلا من خبر الوحي ، وقد كانت موضوع بحث ومناقشة بين علماء المنقول والمعقول فنورد أمثل ما قالوه فيها . قال الإمام أخذ الذرية من بني آدم ، وإشهادهم على أنفسهم ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : .
[ ص: 327 ] " يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو ، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه . قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ( 30 : 30 ) وفي الصحيحين عن ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أبي هريرة وفي رواية كل مولود يولد على الفطرة ؟ . وفي صحيح على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ، وقال الإمام " يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم رحمه الله : حدثنا أبو جعفر بن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن حدثهم عن الحسن بن أبي الحسن الأسود بن سريع من بني سعد قال : قال غزوت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع غزوات قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة ، فبلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاشتد عليه ثم قال : ما بال أقوام يتناولون الذرية " ؟ فقال رجل : يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : " إن خياركم أبناء المشركين ، ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها وينصرانها الحسن : والله لقد قال الله في كتابه : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية . وقد رواه الإمام أحمد عن عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد به ، وأخرجه الحسن البصري في سننه من حديث النسائي هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن ، قال : حدثني الأسود بن سريع فذكره ، ولم يذكر قول واستحضاره الآية عند ذلك . الحسن البصري
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ، وتميزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم ، قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن عن أبي عمران الجوني ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " أنس بن مالك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي " أخرجاه في الصحيحين من حديث يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر شعبة به " .
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا عن جرير - يعني - ابن حازم كلثوم بن جبير عن عن سعيد بن جبير عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " ابن عباس آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل [ ص: 328 ] ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم فتلا قال : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إلى قوله : المبطلون وقد روى هذا الحديث إن الله أخذ الميثاق من ظهر في كتاب التفسير من سننه عن النسائي محمد بن عبد الرحيم عن عن صاعقة به ، ورواه حسين بن محمد المروزي ابن جرير من حديث وابن أبي حاتم حسين بن محمد به . إلا أن جعله موقوفا . وأخرجه ابن أبي حاتم الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن عن جرير بن حازم كلثوم بن جبير به وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال ، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبير عن عن سعيد بن جبير فوقفه ، وكذا رواه ابن عباس إسماعيل بن علية عن ووكيع ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه به ، وكذا رواه ، عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن عن سعيد بن جبير قوله ، وكذا رواه ابن عباس العوفي وعلي بن أبي طلحة عن فهذا أكثر وأثبت والله أعلم ، وقال ابن عباس : حدثنا ابن ابن جرير حدثنا أبي عن وكيع أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن قال : أخرج الله ذرية ابن عباس آدم من ظهره كهيئة الذر ، وهو في أذى من الماء . وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل حدثنا حدثنا ضمرة بن ربيعة أبو مسعود عن جويبر : مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال : فقال يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحدة فأبرز وجهه ، وحل عنه عقده ، فإن ابني مجلس ومسئول ، ففعلت الذي به أمر ، فلما فرغت قلت : يرحمك الله عم يسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم ، قلت : يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم ؟ قال : حدثني أن الله مسح صلب ابن عباس آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول ، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة ، فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على والله أعلم . ابن عباس
( حديث آخر ) قال : حدثنا ابن جرير عبد الرحمن بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي ظبية عن عن سفيان بن سعيد الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن قال : عبد الله بن عمرو قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم قال : " أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . قالت الملائكة : شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ، أحمد بن أبي ظبية هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس ، كان أحد الزهاد ، أخرج له في سننه وقال : [ ص: 329 ] النسائي يكتب حديثه ، وقال أبو حاتم الرازي : حدث بأحاديث كثيرة غرائب ، وقد روى هذا الحديث ابن عدي عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي عن عن سفيان الثوري مجاهد عن قوله ، وكذا رواه عبد الله بن عمرو جرير عن منصور به ، وهذا أصح والله أعلم : ( حديث آخر ) قال : حدثنا الإمام أحمد حدثنا روح هو ابن عبادة مالك ، وحدثنا إسحاق بن مالك عن أن زيد بن أبي أنيسة أخبره عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن مسلم بن يسار الجهني سئل عن هذه الآية : عمر بن الخطاب وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الآية . فقال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عنها فقال : عمر بن الخطاب وهكذا رواه إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " فقال : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار أبو داود عن القعنبي عن والنسائي قتيبة ، عن والترمذي إسحاق بن موسى عن معن ، عن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى ابن وهب ، من حديث وابن جرير روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، وأخرجه في صحيحه من رواية ابن حبان أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام به قال مالك بن أنس الترمذي : وهذا حديث حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع عمر ، وكذا قاله أبو حاتم ، زاد وأبو زرعة أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة ، وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن عن محمد بن مصفى عن بقية عمرو بن جعثم القرشي عن عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني نعيم بن ربيعة قال : كنت عند ، وقد سئل عن هذه الآية عمر بن الخطاب وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم فذكره . وقال الحافظ : وقد تابع الدارقطني عمرو بن جعثم بن زيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك ، والله أعلم : ( قلت ) : الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة لما جهل حال نعيم ، ولم يعرفه ، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ، ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ، ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم .
( حديث آخر ) قال الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا حدثنا عبد بن حميد أبو نعيم حدثنا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أبي صالح عن قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أبي هريرة آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها [ ص: 330 ] من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص عينيه قال : أي رب من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود . قال : رب وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ ، قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم فجحدت ذريته ، ونسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته ثم قال لما خلق الله الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ورواه أبي هريرة الحاكم في مستدركه من حديث به وقال : صحيح على شرط أبي نعيم الفضل بن دكين مسلم ولم يخرجاه ، ورواه في تفسيره من حديث ابن أبي حاتم عن أبيه أنه حدثه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : أبي هريرة " ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك ، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم : يا رب لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال كي تذكر نعمتي . وقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك " ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم .
( حديث آخر ) قال عبد الرحمن بن قتادة النضري عن أبيه عن ـ رضي الله عنه ـ ، هشام بن حكيم آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار " رواه أن رجلا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله ابتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء قال : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن الله قد أخذ ذرية ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه .
( حديث آخر ) روى جعفر بن الزبير - وهو ضعيف عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آدم رواه لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه ، وأهل الشمال بشماله ، فقال يا أصحاب اليمين . فقالوا : لبيك وسعديك . قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى : ثم خلط بينهم ، فقال قائل له : يا رب لم خلطت بينهم ؟ قال : لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم ردهم في صلب ابن مردويه .
( أثر آخر ) قال أبو جعفر الرازي عن عن الربيع بن أنس أبي العالية عن في قوله تعالى : أبي بن كعب وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآيات . قال : فجمعهم [ ص: 331 ] له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الآية . قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا ، اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، وإني سأرسل لكم رسلا لينذروكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي ، قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك فأقروا له يومئذ بالطاعة ، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : يا رب لو سويت بين عبادك ، قال : إني أحببت أن أشكر . ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ( 33 : 7 ) الآية . وهو الذي يقول : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله ( 30 : 30 ) الآية . ومن ذلك قال : هذا نذير من النذر الأولى ( 53 : 56 ) ومن ذلك قال : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( 7 : 102 ) الآية . رواه في مسند أبيه ، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم من رواية أبي جعفر الرازي به ، وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها وبالله المستعان .
فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن عن سعيد بن جبير - وفي حديث ابن عباس ، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ، ومن رواية عن الحسن البصري الأسود بن سريع ، وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا ولهذا قال : وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل من آدم من ظهورهم ، ولم يقل من ظهر ذرياتهم أي : جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ، كقوله تعالى : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ( 6 : 165 ) وقال : ويجعلكم خلفاء الأرض ( 27 : 62 ) وقال : كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ( 6 : 133 ) ثم قال : وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا . والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : قالوا شهدنا على أنفسنا ( 6 : 130 ) الآية . وتارة تكون حالا كقوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ( 9 : 17 ) أي : حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك ، كقوله تعالى : وإنه على ذلك لشهيد ( 100 : 7 ) كما أن السؤال تارة يكون [ ص: 332 ] بالقال ، وتارة يكون بالحال ، كقوله : وآتاكم من كل ما سألتموه ( 14 : 34 ) قالوا : ومما يدل على أن الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره ; ليكون حجة عليه ، فإن قيل : إخبار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ، ولهذا قال : أن تقولوا أي : لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين أي : عن التوحيد غافلين : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا الآية . انتهى كلام ابن كثير .
وقد بسط العلامة ابن القيم هذه المسألة في كتاب الروح في سياق البحث في خلق الأرواح قبل الأجساد - فذكر الروايات المرفوعة والموقوفة والآثار فيها وما قيل من الجرح والتعديل في أسانيدها ثم قال : .
وهاهنا أربع مقامات ( أحدها ) أن الله سبحانه استخرج صورهم وأمثالهم ، فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم . ( والثاني ) أن الله سبحانه أقام عليهم الحجة حينئذ ، وأشهدهم بربوبيته ، واستشهد عليهم ملائكته . ( الثالث ) أن هذا هو تفسير قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ( الرابع ) أنه أقر تلك الأرواح كلها بعد إخراجها بمكان وفراغ من خلقها ، وإنما يتجدد كل وقت إرسال جملة منها بعد جملة إلى أبدانها .
( فأما المقام الأول ) فالآثار متظاهرة به مرفوعة وموقوفة . ( وأما المقام الثاني ) فإنما أخذه من أخذه من المفسرين من الآية وظنوا أنه تفسيرها ، وهذا قول جمهور المفسرين من أهل الأثر . قال أبو إسحاق : جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال : قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ( 27 : 18 ) وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير . وقال : مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية : أن الله أخرج ذرية ابن الأنباري آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر ، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم ، وأنهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا ، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب ، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد ، والنخلة التي سمعت وانقادت حين دعيت .
وقال الجرجاني : ليس بين قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " " وبين الآية اختلاف بحمد الله ; لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته ; لأن ذرية إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته آدم ذرية لذريته ، بعضهم من بعض . وقوله تعالى : أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي : عن الميثاق المأخوذ عليهم ، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق . قال : وفي هذا دليل على التفسير الذي جاءت [ ص: 333 ] به الرواية من أن الله تعالى قال للملائكة : اشهدوا فقالوا : شهدنا . قال : وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد ; لأن الأرواح هي التي تعقل وتفهم ، ولها الثواب وعليها العقاب ، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم . قال : وكان يذهب إلى هذا المعنى ، وذكر أنه قول إسحاق بن راهويه . قال أبي هريرة إسحاق : وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم ، قال الجرجاني : واحتجوا بقوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ( 3 : 169 ) والأجساد قد بليت ، وضلت في الأرض ، والأرواح ترزق وتفرح ، وهي التي تلذ وتألم ، وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر ، وبيان ذلك في الأحلام موجود ، إن الإنسان يصبح وأثر لذة الفرح وألم الحزن باق في نفسه مما تلاقي الروح دون الجسد .
قال : وحاصل الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم ، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين ، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها ، غير أنه عز وجل لا يطالب أحدا منهم من الطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة ، وركب فيهم من القدرة ، وآتاهم من الأدلة . وبين سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي ، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين ، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه ، وحكيم لا تفاوت في صنعه ، وقادر لا يسأل عما يفعل ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .