(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38nindex.php?page=treesubj&link=29281_28981أم يقولون افتراه ) انتقال من بيان كونه أجل وأعلى من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله ، إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - افتراه ، والاستفهام فيه للإنكار والتعجيب ، أو التمهيد به إلى الرد عليه بتحدي التعجيز ، وهو : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38قل فأتوا بسورة مثله ) في أسلوبه ونظمه وتأثيره وهدايته وعلمه ، مفتراة في موضوعها ، لا تلتزمون أن تكون حقا في أخبارها ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38وادعوا من استطعتم من دون الله ) واطلبوا للمظاهرة لكم والإعانة على ذلك من استطعتم دعاءهم من دون الله فإن جميع الخلق يعجزون عن ذلك مثلكم ، فهذا كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( 17 : 88 ) وهذه الآية في سورة الإسراء ، وقد نزلت قبل يونس (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38إن كنتم صادقين ) في زعمكم أني افتريته . والجمهور على أن لفظ سورة هنا يصدق بالقصيرة كالطويلة ، وبينا وجهه في تفسير آية التحدي من سورة البقرة ( 2 : 23 ) وهو المتبادر من تنكير السورة ، إلا أن يقال : إن التنكير للتعظيم ، أو لنوع من السور يدل عليه دليل كالسور التي فيها قصص الأنبياء وأخبار وعيد الدنيا والآخرة ; لأن الافتراء تتعلق تهمته بالإخبار لا بالإنشاء من أمر ونهي ، كما أشرت إليه في تفسير سورة البقرة .
ورجح بعضهم أن المراد السورة الطويلة ، أي مثل هذه السورة نفسها ( يونس ) في اشتمالها على أصول الدين والوعد والوعيد ، كما يطلق لفظ الكتاب أو كتاب أحيانا ويراد به السورة الواحدة التي يذكر فيها ، كقول من قال في أول سورة الأعراف
[ ص: 303 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=1المص nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=2كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ) ( 7 : 1 و 2 ) أي هذه السورة كتاب إلخ ومن تنكير لفظ ( ( سورة ) ) المراد بها النوع دون الوحدة قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=20ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ) ( 47 : 20 ) أي يفرض فيها القتال ، بدليل قوله بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=20فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ) ( 47 : 20 ) الآية . وسنعود إلى هذا البحث في تفسير التحدي بعشر سور مثله مفتريات من سورة هود إن شاء الله تعالى .
ومن المعلوم بالبداهة أنه ما كان لعاقل مثله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحداهم هذا التحدي ، لو لم يكن عالما موقنا بأنه لا يستطيع الإنس والجن الإتيان بمثل هذا القرآن في جملته ولا بسورة مثله ، لا أفراد العلماء والبلغاء منهم ولا جماعاتهم ولا جملتهم ، إن فرض إمكان اجتماعهم وتعاونهم ومظاهرة بعضهم لبعض ، فلو كان هو الذي أنشأه وألفه لمصلحة الناس برأيه - كما ارتأى بعض المعجبين بعقله وذكائه وعلو أفكاره من الفلاسفة المتقدمين ، وعلماء الماديين المتأخرين - لكان عقله وذكاؤه وعلو فكره مانعات له من هذا الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة ( ( الإنس ) ) والخفية ( ( الجن ) ) عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به ; فإن كل عاقل متوسط الذكاء والفكر يعلم أن كل ما أمكنه من الأمر فهو يمكن غيره ، بل لا يأمن أن يوجد من هو أقدر عليه منه ، فهذه آية بينة للعقل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موقنا بأنه من عند الله تعالى ، وأنه هو كغيره لا يقدر على الإتيان بسورة مثله ، وهي إحدى حجج الذين قالوا إنه لا يعقل أن يكون كاذبا مفتريا له . ( فإن قيل ) إنه يمكن أن يعتقد عجز نفسه وغيره في حال كونه وحيا من نفسه ، معتقدا ، أنه من ربه . ( قلنا أولا ) إن دعوى الوحي النفسي باطلة بأدلة كثيرة كما تقدم . ( وثانيا ) إن عجز غيره ممن كانوا أفصح منه دليل على عجزه بطريق الأولى .
ثم إن أكثر المتكلمين ومن على مذاهبهم من المفسرين ، يعتمدون في إقامة الحجة على نبوته ورسالته - صلى الله عليه وسلم - على تحديه للعرب بالقرآن أن يأتوا بمثله إجمالا ، أو بحديث مثله فبعشر سور مثله مفتريات فبسورة من مثل
محمد - صلى الله عليه وسلم - أي في أميته ، وبما ظهر من عجز العرب وغيرهم عن ذلك ; إذ لو قدر أحد على الإتيان بسورة مثله أو قريب منه لفعلوا ; لتوفر الدواعي من أعدائه على تكذيب دعواه ولا سيما بعد استفحال قوته ، واضطرارهم إلى بذل أموالهم وأنفسهم في مكافحته ، وبهذا يعلم الفرق الواضح بين تحديه - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ، وتحدي بعض الدجالين المغرورين ببعض ما هذوا به من نثر ونظم وسموه وحيا ،
كالباب والبهاء والقادياني ، فإنه كان سخرية للعلماء والبلغاء ، وقد أخفى
البهائيون كتابه ( الأقدس ) عن الناس .
[ ص: 304 ] ثم إن أكثرهم على أن تحدي العرب إنما كان بما امتاز به من الفصاحة والبلاغة اللغوية .
وقد صنفوا في بيان إعجاز القرآن بها كتبا مستقلة ، ولم يوفوه حقه من ناحيتها ولا سيما نظمه العجيب بله النواحي المعنوية . ( وقالوا ) إن وجه الدلالة في ذلك على صدقه - صلى الله عليه وسلم - في دعوى النبوة وأنه من عند الله ، هو أنه يتضمن تصديقه له كأنه قال ( ( صدق عبدي فيما يبلغه عني ) ) ولذلك رجحوا أن هذه الدلالة وضعية كدلالة الكلام الإلهي ، وقيل : إنها عقلية وتقدم بسط ذلك في تفسير آية البقرة .
وهذا الذي قالوه في إعجازه بالبلاغة قد اعترض عليه بعض الناس ، حتى المتقدمين الذين كانوا أقرب إلى فهمه وامتيازه بها من أهل عصرنا . قال الفريقان : إن لكل بليغ من فصحاء كل أمة أسلوبا يمتاز به ، وأنتم أيها المسلمون تقولون إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أفصح
قريش وهم أفصح العرب ، فلا غرو أن يمتاز فيهم بهذا الأسلوب والنظم القرآني كما امتاز بعض شعراء الجاهلية والإسلام بأسلوب خاص وكما امتاز
شكسبير في شعراء الإنكليز
وفيكتور هيغو في الشعراء الفرنسيس ، فعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن في بلاغته لا يدل على أنه من الله عز وجل .
( ونقول ) إن هذا الاعتراض يذوب فيزول إذا عرض على الأشعة التي اقتبسناها من ضياء شمس القرآن ، في إعجازيه اللفظي والمعنوي في أول تفسير هذه السورة ، ثم في تفسير الآيتين ( 15 ، 16 ) منها . وأما قولهم في إحدى مقدماته : إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أفصح
قريش وأبلغهم في لغته ، فقد بينا بالنقل الثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قبل نزول القرآن عليه يذكر في فحول فصحائهم ولا في وسطهم بل لم يكن يعد منهم ، وإنما صار كلامه ممتازا بالفصاحة والبلاغة بما استفاده من وحي القرآن ، كما استفاد من دونه منه ، على أنه ظل ككلام غيره من البشر في البعد عن مشابهة نظم القرآن وأسلوبه وتأثيره ، وهذا التفاوت لا نظير له في كلام بلغاء البشر .
( فإن قيل ) إن ما يظهر في السور الطويلة من روعة البلاغة وبراعة النظم لا يظهر في السور القصيرة . ( قلنا ) لكن الناس عجزوا عن معارضة السور القصار كغيرها ، ولخفاء وجه الإعجاز فيها على بعضهم قال من قال منهم : إن عجزهم كان بصرف الله تعالى لقدرهم عن المعارضة ، وقال بعضهم : إن التحدي إنما كان بسورة طويلة كما نقلناه آنفا عن
الرازي ووجهناه بأظهر مما وجهه به ، وهو أن تكون مما أرادوه من تهمة افترائه .
وبيانه أنه إذا كان التحدي بسورة مثله مفتراة خاصا بالسور التي فيها قصص الرسل مع أقوامهم بالتفصيل ، فهذه كلها من السور الطويلة كالأعراف ويونس وهود والحجر وطه
[ ص: 305 ] والمؤمنون والطواسين والعنكبوت ، وإن كان يعم السور المشتملة على نذر أولئك الأقوام المكذبين لرسلهم من غير تفصيل لدعوتهم لهم فيدخل في عمومه بعض سور المفصل أيضا كالذاريات والنجم والقمر والحاقة والفجر ، ولا يدخل فيه على كل من التقديرين شيء من السور القصيرة لأنه ليس فيها شيء من ذلك . والتحدي في هذه السورة وسورة هود وسورة الطور مبني على تهمة الافتراء والتكذيب كما ترى إيضاحه في آية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=39بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) ( 39 ) التي تلي هذا .
ومن تأمل ما في هذه السور من المفصل من التعبير عن المعنى الواحد بالعبارات العديدة مع تعدد أساليبها ، واختلاف نظمها ، وأنواع فواصلها ، وألوان بيانها ، وقوارع نذرها ، وصوادع وعيدها ، وقابليتها للترتيل بالنغمات المؤثرة اللائقة بكل منها ، فأجدر به إن كان قد أوتي حظا من بيان هذه اللغة والشعور الذوقي ببلاغتها ، أن يقتنع بأن إعجازها اللغوي كإعجاز قصص السور الطويلة أو أظهر ، بصرف النظر عن كون موضوعها حقا موحى به من الله تعالى أم لا ، وأن يتجلى له سر تأثيرها العجيب في أولئك المكذبين من بلغاء
قريش وغيرهم ، الذي عبر عنه
الوليد بن المغيرة المخزومي - وهو في الذروة العليا منهم - بعبارته المشهورة ومنها قوله : ( ( وإنه ليعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ) ) وغير ذلك مما بيناه في مباحث الوحي ، وأن يعلم صدق الإمام
عبد القاهر في قوله : ( ( أسال عليهم الوادي عجزا ، وأخذ عليهم منافذ القول أخذا ) ) علما ذوقيا وجدانيا .
وأما من لا يعرف من بلاغة هذه اللغة إلا القواعد الفنية ، وأمثلتها الجزئية المدونة في مثل مختصر
السعد التفتازاني ومطولة من كتب المعاني والبيان ، فأجدر به أن يطبقها على كل كلام وناهيك به إذا عد منها ما ذكره المتنطعون من المتأخرين فيما يسمونه المحسنات البديعية ، وشروط الفصاحة وعيوبها ، وقد سمعت أن بعضهم مج ذوقه بعض فواصل سورة القمر ، فكان بعض المستشرقين أصح منه فهما وذوقا ، إذ قال إنها من أبلغ سور القرآن أو أبلغها كلها بلا استثناء .
( فإن قيل ) إن التحدي في السور الثلاث : ( يونس ، وهود ، والطور ) جاء ردا على تهمة الافتراء والتقول كما قلتم ، فيظهر فيه أن يختص بالسور التي تظهر فيها تهمة الافتراء كما قررتم ولكن التحدي في آية سورة البقرة ليس كذلك ( قلنا ) لكنه جواب للمرتابين فيه وهم المكذبون ، فهو تأكيد لما قبله ; لأنه نزل بعده . وهي مدنية وهن مكيات . فإن منعنا هذا وقلنا إن التنكير فيها يصدق بأصغر سورة وهي الكوثر ، وسلمنا أنه لا يظهر فيها إعجاز النظم والأسلوب ( قلنا ) إنها معجزة بما فيها من الإيجاز وخبري الغيب في أولها وآخرها كما شرحناه في تفسير الآية من الجزء الأول . وفي الجلالين ما يؤيد هذا فقد قال : في آية البقرة : هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب ا ه . وقال في آية يونس : هي مثله في الفصاحة
[ ص: 306 ] والبلاغة على وجه الافتراء ا ه . وإعجاز السور الصغيرة المعنوي بالهدى والنور وإصلاح القلوب لا يكابر فيه إلا الجهول المحجوب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38nindex.php?page=treesubj&link=29281_28981أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ كَوْنِهِ أَجَلَّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُفْتَرَى لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، إِلَى حِكَايَةِ زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْمُعَانِدِينَ أَنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَاهُ ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ ، أَوِ التَّمْهِيدِ بِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِتَحَدِّي التَّعْجِيزِ ، وَهُوَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعِلْمِهِ ، مُفْتَرَاةٍ فِي مَوْضُوعِهَا ، لَا تَلْتَزِمُونَ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي أَخْبَارِهَا ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وَاطْلُبُوا لِلْمُظَاهَرَةِ لَكُمْ وَالْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَكُمْ ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( 17 : 88 ) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ، وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ يُونُسَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فِي زَعْمِكُمْ أَنِّي افْتَرَيْتُهُ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سُورَةٍ هُنَا يَصْدُقُ بِالْقَصِيرَةِ كَالطَّوِيلَةِ ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ( 2 : 23 ) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّورَةِ ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ السُّورِ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كَالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُ وَعِيدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ تَتَعَلَّقُ تُهْمَتُهُ بِالْإِخْبَارِ لَا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ ، أَيْ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا ( يُونُسَ ) فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْكِتَابِ أَوْ كِتَابٍ أَحْيَانًا وَيُرَادُ بِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ
[ ص: 303 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=1المص nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=2كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) ( 7 : 1 و 2 ) أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ كِتَابٌ إِلَخْ وَمِنْ تَنْكِيرِ لَفْظِ ( ( سُورَةٍ ) ) الْمُرَادِ بِهَا النَّوْعُ دُونَ الْوَحْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=20وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) ( 47 : 20 ) أَيْ يُفْرَضُ فِيهَا الْقِتَالُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=20فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) ( 47 : 20 ) الْآيَةَ . وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ لِعَاقِلٍ مِثْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ هَذَا التَّحَدِّيَ ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مُوقِنًا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، لَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مِنْهُمْ وَلَا جَمَاعَاتُهُمْ وَلَا جُمْلَتُهُمْ ، إِنْ فُرِضَ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَمُظَاهَرَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُ وَأَلَّفَهُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ بِرَأْيِهِ - كَمَا ارْتَأَى بَعْضُ الْمُعْجَبِينَ بِعَقْلِهِ وَذَكَائِهِ وَعُلُوِّ أَفْكَارِهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَعُلَمَاءِ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ - لَكَانَ عَقْلُهُ وَذَكَاؤُهُ وَعُلُوُّ فِكْرِهِ مَانِعَاتٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْجَزْمِ بِعَجْزِ عُقَلَاءِ الْخَلْقِ مِنَ الْعَوَالِمِ الظَّاهِرَةِ ( ( الْإِنْسِ ) ) وَالْخَفِيَّةِ ( ( الْجِنِّ ) ) عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ مَا أَتَى هُوَ بِهِ ; فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُتَوَسِّطِ الذَّكَاءِ وَالْفِكْرِ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْأَمْرِ فَهُوَ يُمْكِنُ غَيْرَهُ ، بَلْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، فَهَذِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَقْلِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ هُوَ كَغَيْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَهِيَ إِحْدَى حُجَجِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا لَهُ . ( فَإِنْ قِيلَ ) إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ نَفْسِهِ ، مُعْتَقِدًا ، أَنَّهُ مِنْ رَبِّهِ . ( قُلْنَا أَوَّلًا ) إِنَّ دَعْوَى الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ بَاطِلَةٌ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ . ( وَثَانِيًا ) إِنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانُوا أَفْصَحَ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، يَعْتَمِدُونَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحَدِّيهِ لِلْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ إِجْمَالًا ، أَوْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَبِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ فَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ فِي أُمِّيَّتِهِ ، وَبِمَا ظَهَرَ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ; إِذْ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ لَفَعَلُوا ; لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى تَكْذِيبِ دَعَوَاهُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اسْتِفْحَالِ قُوَّتِهِ ، وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى بَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي مُكَافَحَتِهِ ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ تَحَدِّيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ ، وَتَحِدِّي بَعْضِ الدَّجَّالِينَ الْمَغْرُورِينَ بِبَعْضِ مَا هَذَوَا بِهِ مِنْ نَثْرٍ وَنَظْمٍ وَسَمَّوْهُ وَحْيًا ،
كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادَيَانِيِّ ، فَإِنَّهُ كَانَ سُخْرِيَةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ ، وَقَدْ أَخْفَى
الْبَهَائِيُّونَ كِتَابَهُ ( الْأَقْدَسَ ) عَنِ النَّاسِ .
[ ص: 304 ] ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّ تَحَدِّيَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كَانَ بِمَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ اللُّغَوِيَّةِ .
وَقَدْ صَنَّفُوا فِي بَيَانِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِهَا كُتُبًا مُسْتَقِلَّةً ، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ مِنْ نَاحِيَتِهَا وَلَا سِيَّمَا نَظْمِهِ الْعَجِيبِ بَلَهَ النَّوَاحِي الْمَعْنَوِيَّةِ . ( وَقَالُوا ) إِنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، هُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَهُ لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ ( ( صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِّي ) ) وَلِذَلِكَ رَجَّحُوا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ وَضْعِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ .
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي إِعْجَازِهِ بِالْبَلَاغَةِ قَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ ، حَتَّى الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِهِ وَامْتِيَازِهِ بِهَا مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا . قَالَ الْفَرِيقَانِ : إِنَّ لِكُلِّ بَلِيغٍ مِنْ فُصَحَاءِ كُلَّ أُمَّةٍ أُسْلُوبًا يَمْتَازُ بِهِ ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَقُولُونَ إِنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ
قُرَيْشٍ وَهُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَمْتَازَ فِيهِمْ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا امْتَازَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ وَكَمَا امْتَازَ
شَكْسِبِيرُ فِي شُعَرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ
وَفِيكْتُورْ هُيُغُو فِي الشُّعَرَاءِ الْفَرَنْسِيسِ ، فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي بَلَاغَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
( وَنَقُولُ ) إِنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ يَذُوبُ فَيَزُولُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْأَشِعَّةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْ ضِيَاءِ شَمْسِ الْقُرْآنِ ، فِي إِعْجَازَيْهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ ( 15 ، 16 ) مِنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي إِحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ : إِنَّ
مُحَمِّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ
قُرَيْشٍ وَأَبْلَغَهَمْ فِي لُغَتِهِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ يُذْكَرُ فِي فُحُولِ فُصَحَائِهِمْ وَلَا فِي وَسَطِهِمْ بَلْ لَمْ يَكُنْ يُعَدُّ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا صَارَ كَلَامُهُ مُمْتَازًا بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ ، كَمَا اسْتَفَادَ مَنْ دُونَهُ مِنْهُ ، عَلَى أَنَّهُ ظَلَّ كَكَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مُشَابَهَةِ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ وَتَأْثِيرِهِ ، وَهَذَا التَّفَاوُتُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) إِنَّ مَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْ رَوْعَةِ الْبَلَاغَةِ وَبَرَاعَةِ النَّظْمِ لَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ . ( قُلْنَا ) لَكِنَّ النَّاسَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورِ الْقِصَارِ كَغَيْرِهَا ، وَلِخَفَاءِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إِنَّ عَجْزَهُمْ كَانَ بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى لِقُدَرِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا كَانَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنِ
الرَّازِيِّ وَوَجَّهْنَاهُ بِأَظْهَرِ مِمَّا وَجَّهَهُ بِهِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ مِنْ تُهْمَةِ افْتِرَائِهِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَاةٍ خَاصًّا بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ وَطَهَ
[ ص: 305 ] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالطَّوَاسِينِ وَالْعَنْكَبُوتِ ، وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ السُّوَرَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى نُذُرِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِدَعْوَتِهِمْ لَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ بَعْضُ سُورِ الْمُفَصَّلِ أَيْضًا كَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَالتَّحَدِّي فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الطُّورِ مَبْنِيٌّ عَلَى تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا تَرَى إِيضَاحَهُ فِي آيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=39بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) ( 39 ) الَّتِي تَلِي هَذَا .
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْمُفَصَّلِ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعِبَارَاتِ الْعَدِيدَةِ مَعَ تَعَدُّدِ أَسَالِيبِهَا ، وَاخْتِلَافِ نَظْمِهَا ، وَأَنْوَاعِ فَوَاصِلِهَا ، وَأَلْوَانِ بَيَانِهَا ، وَقَوَارِعِ نُذُرِهَا ، وَصَوَادِعِ وَعِيدِهَا ، وَقَابِلِيَّتِهَا لِلتَّرْتِيلِ بِالنَّغَمَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ اللَّائِقَةِ بِكُلٍّ مِنْهَا ، فَأَجْدِرْ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ أُوتِيَ حَظًّا مِنْ بَيَانِ هَذِهِ اللُّغَةِ وَالشُّعُورِ الذَّوْقِيِّ بِبَلَاغَتِهَا ، أَنْ يَقْتَنِعَ بِأَنَّ إِعْجَازَهَا اللُّغَوِيَّ كَإِعْجَازِ قَصَصِ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ أَوْ أَظْهَرَ ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا حَقًّا مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا ، وَأَنْ يَتَجَلَّى لَهُ سِرُّ تَأْثِيرِهَا الْعَجِيبِ فِي أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ بُلَغَاءِ
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ - وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُمْ - بِعِبَارَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ : ( ( وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ ) ) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ ، وَأَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ الْإِمَامِ
عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي قَوْلِهِ : ( ( أَسَالَ عَلَيْهِمُ الْوَادِيَ عَجْزًا ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَنَافِذَ الْقَوْلِ أَخْذًا ) ) عِلْمًا ذَوْقِيًّا وِجْدَانِيًّا .
وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ إِلَّا الْقَوَاعِدَ الْفَنِّيَّةَ ، وَأَمْثِلَتَهَا الْجُزْئِيَّةَ الْمُدَوَّنَةَ فِي مِثْلِ مُخْتَصَرِ
السَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَمُطَوَّلَةٍ مِنْ كُتُبِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يُطَبِّقَهَا عَلَى كُلِّ كَلَامٍ وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا عَدَّ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُتَنَطِّعُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ ، وَشُرُوطِ الْفَصَاحَةِ وَعُيُوبِهَا ، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَجَّ ذَوْقَهُ بَعْضُ فَوَاصِلِ سُورَةِ الْقَمَرِ ، فَكَانَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَصَحَّ مِنْهُ فَهْمًا وَذَوْقًا ، إِذْ قَالَ إِنَّهَا مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَوْ أَبْلَغِهَا كُلِّهَا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ .
( فَإِنْ قِيلَ ) إِنَّ التَّحَدِّيَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ : ( يُونُسَ ، وَهُودٍ ، وَالطَّوْرِ ) جَاءَ رَدًّا عَلَى تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ وَالتَّقَوُّلِ كَمَا قُلْتُمْ ، فَيَظْهَرُ فِيهِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالسُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا تُهْمَةُ الِافْتِرَاءِ كَمَا قَرَّرْتُمْ وَلَكِنَّ التَّحَدِّيَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ ( قُلْنَا ) لَكِنَّهُ جَوَابٌ لِلْمُرْتَابِينَ فِيهِ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ . وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَهُنَّ مَكِّيَّاتٌ . فَإِنْ مَنَعْنَا هَذَا وَقُلْنَا إِنَّ التَّنْكِيرَ فِيهَا يَصْدُقُ بِأَصْغَرِ سُورَةٍ وَهِي الْكَوْثَرُ ، وَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْجَازُ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ ( قُلْنَا ) إِنَّهَا مُعْجِزَةٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِيجَازِ وَخَبَرَيِ الْغَيْبِ فِي أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ . وَفِي الْجِلَالَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فَقَدَ قَالَ : فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ : هِيَ مِثْلُهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ ا ه . وَقَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ : هِيَ مِثْلُهُ فِي الْفَصَاحَةِ
[ ص: 306 ] وَالْبَلَاغَةِ عَلَى وَجْهِ الِافْتِرَاءِ ا ه . وَإِعْجَازُ السُّوَرِ الصَّغِيرَةِ الْمَعْنَوِيُّ بِالْهُدَى وَالنُّورِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ لَا يُكَابِرُ فِيهِ إِلَّا الْجَهُولُ الْمَحْجُوبُ .