فالوصف ( الأول ) لما كذبوا به أنه ما لم يحيطوا بعلمه فيكون تكذيبهم صحيحا ، وإنما ظنوا ظنا ، والظن لا يغني من الحق شيئا ( والثاني ) قوله : ولما يأتهم تأويله أي ولم يأتهم إلى الآن ما يئول إليه ويكون مصداقا له بالفعل ، وإتيانه متوقع بل آت لا بد منه ، وقد خبط المفسرون الفنيون في معنى هذا التأويل منذ القرون الوسطى ; لأنهم لم يفهموا القرآن بلغته الحرة الفصحى ، بل بلغة اصطلاحاتهم الفنية ولا سيما أصول الفقه والكلام . فقال بعضهم : إنهم كذبوا بما لم يفهموا معناه ، وقال بعضهم : إنهم كذبوا بما لم يظهر لهم وجه الإعجاز فيه ، ولو صح هذا أو ذاك لكانوا معذورين بالتكذيب طبعا ، وسبب مثل هذا الغلط جعلهم التأويل تارة بمعناه عند بعض المفسرين وهو رديف التفسير ، وتارة بمعناه عند المتكلمين والأصوليين ، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله في اللغة بشرط موافقته للشرع ; لتخرج تأويلات الباطنية وغلاة الصوفية .
وقد جمع الرازي كعادته كل ما رآه محتملا من هذا التكذيب في خمسة وجوه :
( 1 ) تكذيب قصص القرآن ، وذكر لها ثلاث صور . ( 2 ) حروف التهجي في أوائل بعض السور إذ لم يفهموا منها شيئا ، وزعم أن الله أجاب عنها بآية آل عمران في المحكمات والمتشابهات . ( 3 ) ظهور القرآن منجما شيئا فشيئا . ( 4 ) أخبار الحشر والنشر . ( 5 ) العبادات ، قالوا إن الله مستغن عن عبادتنا ، وكل هذه الوجوه باطلة لا يحتمل إرادة شيء منها إلا الرابع ، وفسر عدم إتيانهم بجهلهم حقيقتها وحكمها ، وهو باطل ، وناهيك بحملها على الحروف المفردة في أول السور وهي ليست بكلام فيكذب أو يصدق . ثم قال : ( ( قال أهل التحقيق : قوله ( ولما يأتهم تأويله ) يدل على أن ; لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة ، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق . أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل [ ص: 307 ] على التأويل ، فيصير نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) ) ا ه . من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة
وهذا القول الذي عزاه إلى أهل التحقيق باطل بعيد عن الحق ، وحكم على كتاب الله بما عابه من اتباع الظن ، وما أهل التحقيق في عرفه إلا نظار علم الكلام المبتدع ، وهو ظلمات بعضها على بعض ، وما ولد البدع المضلة إلا الاشتغال به ، وهذا التأويل الذي قال فيه ما قال لا يصح في اللغة ، ولا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا في المأثور عن أصحابه - رضي الله عنهم - ولا عن أئمة سلف الأمة كما ستراه قريبا .
وأما فله معنى واحد لا معنى له سواه ، وهو عاقبة الشيء ومآله الذي يئول إليه من بيان مصداقه المراد منه بالفعل ، كما قلنا آنفا وبيناه بالتفصيل في تفسير آية المحكمات والمتشابهات من سورة آل عمران ، التي أطال التأويل في لغة القرآن الرازي في الكلام عليها فأخطأ محجة الصواب ، وحرم الحكمة وفصل الخطاب ، فكان أجدر بالخطأ هنا وقد التزم الاختصار ، وأوضح الأدلة على ذلك بعد ما علمت من حمله التأويل على المعنى الاصطلاحي ، غفلته عن نفي إتيانه بحرف ( لما ) الدال على توقعه ; إذ معناه أن تأويله لم يأتهم إلى الآن وإتيانه متوقع بعده ، وغفلته عن تشبيه تكذيبهم بتكذيب من قبلهم في الجملة الآتية . والمتبادر منه أنه وعيد الله إياهم على تكذيبهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ونصره عليهم وهو ما فسر الآية به إمام المفسرين قال : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري
يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك ، ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم . ( ولما يأتهم تأويله ) يقول : ولما يأتهم بعد بيان ما يئول ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن : ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) يقول تعالى ذكره : كما كذب هؤلاء المشركون يا محمد بوعيد الله ، كذلك كذب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم انتهى . وكذلك قال البغوي في تفسير التأويل لأنه محدث فقيه غير متكلم ، وتبعهما الجلال هنا وفي آية الأعراف الآتي ذكرها .
الوصف ( الثالث ) التشبيه الذي ذكرناه في الإجمال ، وهو قوله تعالى : ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) شبه تكذيب مشركي مكة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بتكذيب من قبلهم من مشركي الأمم لرسلهم بما لم يحيطوا بعلمه ، قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به ، كما ترى في قصصهم المفسرة في السور العديدة ولا سيما سورة الشعراء المبدوءة فيها بقوله : ( كذبت قوم نوح المرسلين ) ( 26 : 105 ) ( كذبت عاد المرسلين ) ( 26 : 123 ) ( كذبت ثمود المرسلين ) ( 26 : 141 ) ثم ذكر لفظ التكذيب في وعيدهم كقول هود لقومه :
[ ص: 308 ] ( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) إلى قوله : ( فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية ) ( 26 : 135 - 139 ) إلخ . وقول صالح لقومه بعدهم إذ أتتهم آية الناقة : ( ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب ) ( 26 : 156 - 158 ) إلخ فهذا تأويله المراد من قوله هنا : ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) أي فانظر أيها الرسول أو العاقل المعتبر ، كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم ، وهو تأويل وعيدهم لهم ; لتعلم مصير الظالمين من بعدهم ، وهذه العاقبة مبينة بالإجمال في قوله : ( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( 29 : 40 ) وسيأتي ما يؤيد ما قررناه كله قريبا في الآيات ( 46 - 55 ) .
وقد أنذر قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة في سور كثيرة ، كما أنذرهم عذاب الآخرة ، وكذبه المعاندون المقلدون في كل منهما ظانين أنه لا يقع ، لا غير فاهمين لمعناه أو لإعجازه ، ولكن قضت حكمته تعالى حفظ قومه من تكذيب أكثرهم وما تقتضيه من أخذ عذاب الاستئصال لهم . وارجع إلى قوله تعالى في سورة الأعراف : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) ( 7 : 53 ) إلخ تعلم علم اليقين أن ما قررناه هو حق اليقين الذي لا تقبل غيره لغة القرآن وأنه هو الذي يتفق مع سائر الآيات ، وأن ما قرره الرازي هو الباطل والضلال المبين الذي تدحضه الآية وما في معناها مما ذكرنا بعضه وأشرنا إلى بعض فعسى أن يكون قد استجاب الله دعاء شيخنا رحمه الله فينا إذ قال :
ويخرج وحي الله للناس عاريا من الرأي والتأويل يهدي ويلهم