لا يزال الكلام في أحكام النساء من حيث هن أزواج يمسكن ويسرحن ، فيراجعن أو يبتتن ، وفي حقوقهن حينئذ في أولادهن ، وكل هذا قد مر تفسيره ، وقد ذكر في هاتين الآيتين أحكام من يموت بعولتهن ، ماذا يجب عليهن من الحداد والاعتداد ، ومتى تجوز خطبتهن ومتى يتزوجن ؟
قوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ) أي : يتوفاهم الله تعالى ، أي يقبض أرواحهم ويميتهم . قال الله تعالى في سورة الزمر : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) ( 39 : 42 ) فإذا حذف الفاعل أسند الفعل إلى المفعول وهذا هو المستعمل الفصيح . ( ويذرون أزواجا ) أي : يتركون زوجات ، والفصيح استعمال لفظ الزوج في كل من الرجل وامرأته ، ويجمع في الاستعمال على أزواج ، قال تعالى في سورة الأحزاب : ( وأزواجه أمهاتهم ) ( 33 : 6 ) والزوج في الأصل العدد المكون من اثنين ، وقد اعتبر في تسمية كل من الرجل وامرأته ( ( زوجا ) ) [ ص: 332 ] أن حقيقته من حيث هو زوج مكونة من شيئين اتحدا فصارا شيئا واحدا ، في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر ، ولذلك وضع لهما لفظا واحدا ليدل على أن تعدد الصورة لا ينافي وحدة المعنى ، أريد أن هذا اللفظ المشترك يشعر بأن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها بتمازج النفوس ووحدة المصلحة ، حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر .
وقوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) خبر لما قبله; أي : يتربصن بعد وفاتهم هذه المدة ، وتقدم الكلام في مثله في تفسير قوله عز وجل : ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ( 2 : 228 ) فارجع إليه إن كنت نسيت ما في التعبير من آيات البلاغة ، والمعنى أن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشر ليال ، لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل بغير عذر شرعي ، ولا يواعدن الرجال بالزواج ، وقد يتعارض هذا مع قوله تعالى في سورة الطلاق : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ( 65 : 4 ) فهل يقال : إن ما هنا خاص بغير الحوامل أم ما هنالك خاص بالمطلقات ؟ الظاهر الثاني; لأن الكلام هنالك في الطلاق، والسورة سورته فهو خاص ، والآية التي نحن بصدد تفسيرها عامة في كل من يتوفى زوجها; لأن الله تعالى جعل عدتها طويلة ، وفرض عليها مدة العدة ، مع تحريم السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام ، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها ، ولكن الجمهور على القول الأول ، وأن الحداد على الزوج تنقضي عدتها ولو بعد الموت بيوم أو ساعة ، واحتجوا بحديث الحامل التي يموت زوجها إذا وضعت سبيعة الأسلمية عند أبي داود فإنها قالت : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويروى عن أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها ، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر علي رضي الله عنهما أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا ، فأي آية كانت عند الله هي المخصصة للأخرى كانت عاملة بها ، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام جزما بقول من هذه الأقوال ، ولكن الاحتياط الذي قال به الحبران لا ينكره منكر . وابن عباس
وقد سئل الأستاذ الإمام في الدرس عن ، فأجاب : أن مثل هذا ليس علينا أن نبحث عنه ، وإنما نبحث عما يشير الكتاب إلى حكمته إشارة ما ، ويقول بعض الناس : إن ما يحصل من فراق الزوج من الحزن والكآبة عظيم يمتد إلى أكثر من مدة ثلاثة قروء أو ستين يوما ، فبراءة الرحم إن كانت تعرف بهذه المدة ، فلا يكون استعراف براءته من الحمل مانعا من الزواج ، فبراءة النفس من كآبة الحزن تحتاج إلى مدة أكثر منها ، والتعجل بالزواج مما يسيء أهل الزوج ويفضي إلى الخوض في المرأة بالنسبة إلى ما ينبغي أن تكون عليه من عدم التهافت على الزواج ، وما يليق بها من الوفاء للزوج والحزن عليه . الحكمة في كون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا
[ ص: 333 ] هذا ما حكاه عن بعض الناس جليناه وزدناه توضيحا فكان بيانا لحكمة الزيادة في عدة الوفاة على عدة الطلاق في الجملة لا لكونها أربعة أشهر وعشرا . وقد سئلنا عن هذه الحكمة فأجبنا بجواب ذكر في المنار ( ص 539 م 7 ) واطلع عليه الأستاذ الإمام فلم ينكره .
قلنا بعد بيان حكمة العدة وما يجب من حداد المرأة على زوجها ما نصه : ( ( وذهب أكثر المفسرين إلى أن الحكمة في تحديد عدة الوفاة بهذا القدر أنه هو الزمن الذي يتم فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه ، ولا بد من مراجعة الأطباء في هذا القول قبل تسليمه . والظاهر لنا أن الزيادة لأجل الإحداد ، ولم يظهر لنا شيء قوي في تحديده ، ولكن هناك احتمالات ، منها أنه ربما كان من عرف العرب ألا ينتقد على المرأة إذا تعرضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها فأقرهم الإسلام على ذلك; لأنه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها ، وقد كان من المعروف عندهم أن المرأة تصبر عن الزوج بلا تكلف أربعة أشهر وتتوق إليه بعد ذلك ، ويروى أن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته ، وإذا صح أن هذا أصل في المسألة، تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام ، والله أعلم بالصواب ) ) اهـ .
وسيمر بك قريبا من ذكر بعض عادات العرب في الحداد على الزوج وشدته ، وما أصلح الإسلام فيه ما يبطل التعليل الأول ، وظاهر الآية أن هذا التحديد لعدة الوفاة يشمل بعمومه الصغيرة والكبيرة ، والحرة والأمة ، وذات الحيض واليائسة ، ولكن الفقهاء اختلفوا في أفراد من هذا الشمول كما اختلفوا في الحامل ؛ فذهب الجماهير إلى أن عدة الأمة نصف عدة الحرة ( ( شهران وخمس ليال ) ) ولم ينقلوا في هذا خلافا إلا عن الأصم من فقهاء السلف . والأصل في هذا القياس على الحد ، فإن الله تعالى يقول في سورة النساء بعد ذكر التزوج بالإماء : ( وابن سيرين فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) ( 4 : 25 ) وعلى حديث مرفوعا عند ابن عمر ابن ماجه والدارقطني والبيهقي ( ( ) ) والحديث ضعيف ، في إسناده طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان عمر بن شبيب ، وقال وعطية العوفي الدارقطني والبيهقي : والصحيح أنه موقوف ، واختلفوا أيضا في فقالت طائفة من علماء السلف : عدتها أربعة أشهر وعشر ، وقال آخرون : تعتد بثلاث حيض وعليه الحنفية . وقال آخرون منهم الأئمة الثلاثة : عدتها حيضة أو شهر إذا لم تكن تحيض ( عدة أم الولد يموت سيدها فإذا بلغن أجلهن ) أي : أتممن عدتهن ( فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ) [ ص: 334 ] مما كان محظورا عليهن في العدة من التزين ، والتعرض للخطاب ، والخروج من المنزل ، وقيد ذلك ( بالمعروف ) أي : شرعا وأدبا عرفيا; لأنهن إذا أتين بالمنكر وجب منعهن . واختلفوا في الخطاب هنا فقيل : هو للأولياء; لأن هذا من مقدمات الزواج الذي يتولونه ، وقيل : للمسلمين كافة يتولاه منهم من هو قادر عليه من العارفين به وهو المختار كما علم مما سبق له من النظائر .
لا تقل : إن الآية لم تنطق بما يحظر على المرأة في هذه العدة ، فنقول : إن نفي الجناح متعلق به ، فإن ما علم من الناس بالسنة المتبعة والأخبار الصحيحة في أمر نزل فيه قرآن يتعين حمل القرآن عليه . روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت : ( ( زينب بنت أم سلمة أم حبيبة حين توفي أبو سفيان ( والدها ) فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق وغيره ، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) ) قالت دخلت علي زينب : ( ( وسمعت أمي ( ) تقول : أم سلمة ) ) قال جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ، مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : لا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول حميد : ( ( فقلت لزينب : ما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة ، حمار أو شاة أو طير فتقتض به، فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره ) ) وروى أحمد والشيخان من حديث : ( ( أم سلمة ) ) في رواية أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنوه في الكحل فقال : لا تكتحل ، كانت إحداكن تمكث في أحلاسها أو شر بيتها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة - فلا ، حتي تمضي أربعة أشهر وعشر مطرف عن وابن الماجشون مالك ( ( ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها ) ) .
فأنت ترى من هذه الأحاديث الصحيحة أن العرب على غلوها في الحداد ، وكثرة منكراتها في النوح والندب ، كانت تعتاد أمورا خرافية فيه ، وكانت المرأة تحد على زوجها شر حداد وأقبحه ، فتلزم شر أحلاسها في شر جانب من بيتها، وهو الحفش، سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة ولا تبدو للناس في مجتمعهم ، ثم تخرج من ذلك بما علمت ، أما الأحلاس فهي [ ص: 335 ] جمع حلس - بكسر فسكون ، وبالتحريك - وهو في الأصل ما يكون على الظهر تحت القتب أو السرج أو البرذعة ، ويطلق على الكساء الرقيق ، وعلى ما يجلس عليه من مسح ونحوه ، والحفش - بكسر المهملة - البيت الصغير المظلم داخل البيت ، ويسمون مثله في الحجرات الآن ( ( خزنة ) ) والاقتضاض بالدابة - بالقاف - هو التمسح بها ، قيل : كانت تمسح به جلدها ، وقيل : ما هنالك . قال ابن قتيبة : سألت الحجازيين عن الاقتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا ، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تقتض; أي : تكسر ما كانت فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها فلا يكاد يعيش ما تقتض به . اهـ .
والمراد أنه يموت من نتنها ، وأما عادة مرور الكلب ورمي البعرة فظاهر الرواية أن المعتدة كانت في آخر العدة تنتظر مرور الكلب لترميه بالبعرة وإن طال الزمان ، وبه قال بعضهم ، وقيل : بل ترمي بها ما عرض من كلب أو غيره ، وقالوا : إن المعنى في ذلك عندهم أن ما فعلته من التربص في تلك المشقة والجهد هو عندها بمنزلة البعرة التي رمتها احتقارا له وتعظيما لحق زوجها . وقيل : هو إشارة إلى رمي العدة والتفلت منها . وقيل : بل هو تفاؤل بعدم العودة إلى مثلها وتمني أن تموت في كنف من عساها تتزوج به .
إذا علمت هذا وأمثاله مما كانت عليه العرب من العادات السخيفة والخرافات الشائنة المهينة للمرأة ، يظهر لك شأن ما جاء به الإسلام من الإصلاح في ذلك إذ جعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه ، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي التزوج ، دون النظافة والجلوس في كل مكان من البيت مع النساء والمحارم من الرجال . وهذا الذي أمر به الإسلام يليق ويحسن في كل شعب وجيل في كل زمن وعصر ، لا يشق على بدو ولا حضر ، وقد رأيت أن سعة الدين وتكريمه للنساء قد كادت تنسي المسلمات ما لم يبعد العهد به من عادتهن وتخرج بهن من كل قيد ، حتى استأذن من استأذن منهن بالكحل بحجة الخيفة على العين من المره أو الرمد حتى ذكرهن - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
واستشكل في الحديث المنع من كما هو ظاهر من قولها : ( ( فخشوا على عينها ) ) مع ما علم من أصول الشريعة التي لا خلاف فيها من انتفاء العسر والحرج ، ومن كون الضرورات تبيح المحظورات ، وكون الضرر والضرار ممنوعين ، ومن الترخيص في الكحل للتداوي ; لأن الليل أبعد من مظنة الزينة . في حديث الموطأ عن الكحل للتداوي بالليل دون النهار ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( أم سلمة ) ) وحديث اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار أبي داود ( ( ) ) وأجيب عن حديث النهي المطلق بأجوبة منها [ ص: 336 ] حمله على كحل الزينة كأنه علم بالقرينة أن السؤال كان عنه أو لأجله ، ومنها غير ذلك مما لا حاجة لاستيفائه هنا ، وينبغي أن نتذكر أن الليل صار كالنهار في أمصارنا أو أشد إظهارا للزينة . فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار
هذا ما جاء به الإسلام من الإصلاح في هذه المسألة الاجتماعية ، ومن أراد الاعتبار فلينظر إلى حظ المسلمين اليوم من هديه فيها . المسلمون لا يسيرون اليوم على طريقة واحدة وإنما هم طرائق قدد ، فمن نسائهم من يغلون في الحداد ، ويغرقن في النوح والندب والخروج من العادات في كيفية المعيشة بالبيوت ، حتى يزدن في بعض ذلك على ما كان يكون من نساء الجاهلية ، وليس لهن في ذلك حد ولا أجل يتساوين فيهما ، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع ، بل ربما حددن على الولد سنة أو سنين ، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين يختلف ذلك فيهن باختلاف البلاد والطبقات والبيوت ، فإياكم نسأل أبناء العصر الجديد الذين يرون أن أنفسهم ارتقت في المدنية والاجتماع إلى أفق يستغنون فيه عن هدي الدين ، هل تجدون لنا سبيلا إلى إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد الذي لا حد له ولا نظام ، ولا فائدة فيه لأحد ، بل كله غوائل بما يفني من المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون وغير ذلك ، وما يفسد من آداب المعاشرة ويسلب من هناء المعيشة ، وما يفعل في صحة الكثيرين ، ولا سيما ضعاف المزاج وأهل الأمراض ؟ أصلحوا لنا بعلومكم وفلسفتكم هذه العادات الرديئة بإرجاعها إلى ما قرره الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب ، وأربعة أشهر وعشرا على الزوج ، ويجعل هذا الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من البيت ، أو بما هو خير من ذلك إن أمكن ، وإلا فاعلموا أن لا صلاح لنا إلا بالاعتصام بهدي الدين الذي تحاربونه كل ساعة بأعمالكم وخلالكم ، وعاداتكم ولذاتكم ، وما تحاربون إلا أنفسكم وما تشعرون .
( والله بما تعملون خبير ) محيط بدقائق عملكم، لا يخفى عليه منه شيء ، فإذا ألزمتم النساء الوقوف معكم عند حدوده أصلح أحوالكم ، ورفه معيشتكم في الدنيا ، وأحسن جزاءكم في الآخرة ، وإن لم تفعلوا أخذكم في الدارين أخذا وبيلا . ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) ( 17 : 72 ) .
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت بالتوفي أن يقال : توفي فلان بالبناء للمفعول وعليه القراءة المتواترة في الآية : ( يتوفون ) وقرئ في الشواذ عن علي ( يتوفون ) بالبناء للفاعل وفسر بيستوفون آجالهم ، فإن معنى التوفي أخذ الشيء وقبضه وافيا تاما ، وكانوا يعدون التعبير عن الميت بالمتوفي بصيغة اسم الفاعل لحنا; لأنه مقبوض لا قابض ، كما روي عن أنه كان خلف جنازة فقال له رجل : [ ص: 337 ] من المتوفي ؟ فقال : ( ( الله تعالى ) ) وكان هذا من أسباب أمر علي كرم الله وجهه إياه بوضع بعض أحكام النحو . أبي الأسود الدؤلي
ومنها مسألة المطابقة بين المبتدأ وهو ( والذين يتوفون ) والخبر هو جملة ( يتربصن ) فإنها غير جلية على قواعد النحو ، وإن كان المعنى جليا والتأليف عربيا ، وقد قدر بعضهم لفظ ( زوجات ) مضافا محذوفا; أي : وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن إلخ . قال الأستاذ الإمام : ولا لزوم له; أي : لأنه لا يكون معه فائدة لقوله ( ويذرون أزواجا ) مع ما فيه من التكلف ، ويروون عن سيبويه أن الخبر محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم من حكم الذين يتوفون منكم . ورجح الأستاذ الإمام ما قاله الكسائي ومثله الأخفش ، وهو أن الرابط بين المبتدأ والخبر في مثل هذا التعبير هو الضمير العائد إلى الأزواج الذي هو من متعلقات المبتدأ فهو راجع إلى المبتدأ كأنه قال : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن أزواجهم أربعة أشهر وعشرا . قال : وهو ينطبق على استعماله اللغة ، وهناك وجه آخر يرجع إليه وهو صحة الإخبار عن المبتدأ بما يرجع إليه كقول الشاعر :
لعلي إن مالت بي الريح ميلة إلى ابن أبي ذبيان أن يتندما
فمراد الشاعر الإخبار عن تندم ابن أبي ذبيان ، والأخبار في اللغة لا يراعى بها إلا صحة المعنى ، وكونه مفهوما كما تقدم في تفسير : ( ولكن البر من اتقى ) ( 2 : 189 ) .